غوركي ينشر قصائد الريحاني بترجمة كراتشكوفسكي!
كان لقائي الأول بأمين الريحاني في إحدى الجرائد الصغرى ببيروت سنة 1910 م وكان قد رجع من أمريكا، وقد أحسست بتعمقه في التأمل، وأن لديه مقدرة كبيرة ترتفع فوق مقدرة صحفيين وخطباء مشهورين في سوريا.. تبين هذا الإحساس عندما ظهرت - وقتذاك - مجموعة مقالاته وأشعاره المنشورة في جزئين، كما أنه ارتاد مبكرًا كتابة قصيدة النثر في ديوانه «هتاف الأودية» سنة 1910 م متأثرًا بالشاعر الأمريكي والت ويتمان في ديوانه «أوراق العشب».. فأراد كراتشكوفسكي تعريف القراء الروس بالريحاني في كتاب يحتوي ترجمته، لكن ذلك ظهر في فترة صعبة قبل أسبوعين على ثورة أكتوبر 1917 فكان كالنغمة النشاز - كما يُعَبِّر - تدُقّ في غير أوانها، فلم ينل سوى الزجر والتأنيب على صفحات الجرائد.. بل إنه تعرض في أعقاب الثورة سنة 1922 م للاعتقال بتهمة وجود صلة بين زوجته مع أسرة فنلندية، غير أن كراتشكوفسكي استثمر تدخل أكاديمية العلوم الروسية، التي لم تفلح في إطلاق سراحه، فراح يقرأ في كتب مختصة باللغة العربية والتاريخ الإسلامي! حتى أخلي سبيله بعدما ثبتت براءته وزوجته من التهمة الكيدية.. وحين رجوعه إلى عمله في معهد الاستشراق، تواصل والريحاني عبر مراسلات بينهما، فأرسل إليه كتابه بعدما رجع في تأليفه إلى أشعار الريحاني التي ترجمها ونشرها في مجلة «الشرق» التي أسسها مكسيم غوركي 1868 م - 1936 م.
كانت نظرة مؤلف رواية «الأم» التي بشرت بالرواية الواقعية إثر ثورة أكتوبر الاشتراكية، أكثر إنصافًا لكراتشكوفسكي والريحاني، من نظرة أولئك النقاد الذين دشنوا بين سنة 1917 م و 1918 م بداية انطلاق مرحلة النقد «الأيديولوجي».
هذا ملخص ما ذكره أغناطيوس كراتشكوفسكي 1883 م - 1951 م في كتابه الممتع «مع المخطوطات العربية» ساردًا بأسلوبه الأدبي الجذّاب، مغامراته المثيرة مع عالم المخطوطات المتجهم الجاف.
وقتذاك وصل إلى روسيا ميخائيل نعيمة، بعدما أنهى السيمنار الروسي بتفوق في دار المعلمين بالناصرة.. وهي وغيرها من مدارس تابعة للطائفة الأرثوذكسية، كانت تدار من حكومة القياصرة مباشرة.. وقد حصل نعيمة وفق ذلك على بعثة دراسية لاستكمال دراسته في بلادهم، فتفاعل مع حياة زملائه الروس وشاهد إرهاصات ثورتهم البلشفية قارئًا - بتأثر - روائع الروايات الروسية المكتوبة بلغتها.. كما فصّل ذلك في كتاب رحلته الثانية إلى موسكو منتصف الخمسينات «أبعد من موسكو ومن واشنطن».
وفي سياق التبشير بالحضور الروسي في الشرق العربي، سجّل قبل ذلك رحَّالة وكُتَّاب وشعراء روس انطباعاتهم عن الأرض المقدسة.. ومن بينهم شاعر روسيا البارز ميخائيل ليرمنتوف 1814 م - 1841 م الذي كتب قصيدة بارعة بعنوان «غصن فلسطين» يقول فيها:
حدثني ياغصن عن فلسطين
أين كنت تنمو وأين كنت تزهر
أي وديان وهضاب كنت تزين..
هل كان أبناء القدس الفقراء
يصلون بصوت خافت
عندما يجدلون وريقاتك.
وكان كراتشكوفسكي ممن وفد إلى فلسطين ولبنان وسوريا سنة 1908 م.. ربما لغرض تبشيري.. ومع ذلك فقد كان الكتاب العربي - المخطوط منه خاصة - همه الأكبر بحثًا وتنقيبًا وتحقيقًا، متواصلًا مع المهتمين بها والمقتنين لذخائرها.. الأب لويس شيخو في لبنان وأحمد تيمور في مصر، وغاشيًا المكتبات العامة التي تضم مخطوطات عربية في القدس ودمشق وبيروت والقاهرة والإسكندرية.. كاشفًا النقاب عن المجهول من نفائسها.
يذكر أنس خالدوف 1929 م - 2001 م المحقق الأكاديمي التتري مؤلف كتاب «معجم المخطوطات العربية في روسيا» وهو يعتني بتحقيق ونشر كتاب «المنازل والديار» لأسامة بن منقذ لأول مرة برعاية المتحف الآسيوي ببطرسبرغ سنة 1961 م، بأن الفضل في ذلك يعود إلى من أصبح واحدًا من أنشط عمداء المتحف.. يعني كراتشكوفسكي الذي نَبَّه المحققين من المستشرقين والعرب إلى وجود أصل مخطوطة الكتاب بخزانة المتحف، في مقال له نشره في مجلة المجمع العلمي بدمشق سنة 1925 م.. كما أن كتاب «البديع» لابن المعتز، ما كان له أن ينتشر بين أوساط المهتمين بدروس البلاغة العربية، لولا كشف كراتشكوفسكي أصل مخطوطته ونشرها.. وكذلك فعل مع الشاعر المتفلسف الذي فُتِنَ به أبي العلاء المعري في كتابه «رسالة الملائكة». وغيرهما من كتب محققة ودراسات أدبية عن الشعر العربي القديم والأدب العربي الحديث في عدة كتب بحثية، يأتي على رأسها كتابه الضخم «تاريخ الأدب الجغرافي العربي.. بجزئيه» المُعتَمَد مرجعًا للباحثين في البلدانيات والمواقع، التي ذكرها الجغرافيون ووقف عندها الرحَّالة في مختلف الحقب.
وفي سياق الحج الروسي إلى فلسطين يذكر بيوتر غريز نيفيتش الباحث الروسي في بحثه «القرآن في روسيا.. المنشور في الكتاب الصادر سنة 1986 م من أكاديمية العلوم السو?يتية بعنوان أبحاث جديدة للمستعربين السو?يت» أن الرحَّالة والدبلوماسيين والمستشرقين الروس كانوا يعودون إلى بلدهم، وهم مأخوذين بحياة الشعوب الإسلامية وفكرها الديني في العالم العربي، واصفين في كتاباتهم عمارة المساجد والطقوس والأعياد الدينية في مجتمعاتها، بما في ذلك وصف مكة المكرمة والمدينة المنورة.. ولهذا تمت بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر أولى ترجمات القرآن الكريم إلى البيلاروسية، وتحمس باني روسيا وإمبراطورها المُجدِّد بطرس الأول 1672 م - 1725 م في سياق علاقة بلده التجارية بالشرق العربي، نحو طباعة القرآن الكريم بلغته العربية، بعدما أمر سنة 1712 م بإنشاء مطبعة بحروف عربية خاصة بذلك، وترجمته - رغم موقفه المتحامل على الإسلام - إلى الروسية حيث كانت ترجمة القرآن إلى الفرنسية، هي الشائعة في أوساط النخبة من دبلوماسيين وكتاب وشعراء، وفي الطليعة ممن قرأ بها القرآن الكريم شاعر الأمة الروسية الأكبر ألكسندر بوشكين 1799 م - 1837 م المُتَحَدِّر «حبشيًا» من والدته حفيدة أبرام بتروفيتش جانيبال، الذي ضمه بطرس الأكبر إلى جملة موظفيه وخدمه في قصره.
لقد فُتِن بوشكين عبر الترجمات، بقصص الحب والأساطير العربية والليالي المصرية، وبُهِر كثيرًا بنظم القرآن وبلاغته وإيقاعه، فراح يستلهمه في قصائده.. بل إنه قام بإعادة صياغة سورة الحجرات في واحدة من قصائده التي تعارف عليها دارسو شعره بقصائد ”محاكاة القرآن“ وقد اعتبره ملهمه الأول الذي أذهل مخيلته.. يقول في بعض شعره القرآني:
في المغارة السرية
في يوم الهروب
قرأت آيات القرآن الشاعرية
فجأة هدأت روعي الملائكة
وحملت لي التعاويذ والأدعية.
كذلك يبدو التأثر القرآني واضحًا هنا:
أقسم بالشفع وبالوتر
أقسم بالسيف ومعركة الحق
أقسم بنجمة الصبح
أقسم بصلاة العصر..
ألست أنا الذي سقيتك
من ماء الصحراء يوم العطش.
لقد ترك القرآن أبلغ الأثر لا في شعر بوشكين وحده وإنما في الأدب الروسي، وكان من بينهم كراتشكوفسكي الذي عمل هو الآخر على ترجمة معاني القرآن من العربية إلى الروسية، وقد أتقن اللغة العربية والكتابة بخطها النسخي، مؤكدًا أصالة بلاغتها من أي تأثر يوناني - كما ذهب إلى ذلك قدامة بن جعفر 873 م - 948 م في كتابه ”نقد الشعر“ - محاولًا تصحيح الأخطاء التي وقعت فيها ترجمات القرآن السابقة.
أما أمين الريحاني 1876 م - 1940 م الذي اهتم كراتشكوفسكي بأدبه وشعره، قبل ثورة أكتوبر الاشتراكية وبعدها، فقد هزه هذا الحدث العالمي المزلزل، فطفق يعالج أسبابها ونتائجها في كتابه «تحدر البلشفية» محاولًا تلمس جذور هذه الثورة الشيوعية في بعض الفرق الإسلامية «القرامطة والحشاشون وغيرهما من عقائد برزت قبل مجئ الإسلام» متبنيًا الموقف الغربي وإعلامه المناوئ لثورة أكتوبر، مؤلفًا كتابه هذا باللغة الإنجليزية، وهو في أمريكا سنة 1920 م حين بدأ اسمه يلمع في الصحافة الأمريكية، وقبل ذلك برز سنة 1911 م بروايته «كتاب خالد» التي كتبها كذلك باللغة الانجليزية، معالجًا فيها هجرة اللبنانيين إلى المهجر الأمريكي - من بعلبك إلى نيويورك - داعيًا فيها إلى استلهام الديموقراطية الأمريكية، بمواءمتها مع الثقافة العربية في مشروع العرب الإصلاحي النهضوي المنتظر.. لذلك حذر الريحاني المجتمع الأمريكي في كتابه ”تحدر البلشفية“ من عقابيل الثورة الشيوعية في روسيا، وقد توقع سقوطها وحكمها البلشفي سنة 1950 م في مقال ضَمَّنه في الجزء الأول من كتابه «الريحانيات» لأنها شرعت ”حكم العمال على عرش الحكم الاستبدادي“ حسب تعبيره معتبرًا أن الحكم الاشتراكي، سوف يتبعه نوع من الحكم يأخذ بالأصلح من الأشكال السابقة.. مستوحيًا في حكمه وتوقعه هذا، ما جرى من نكسات في أعقاب «الثورة الفرنسية» الذي ألف كتابه نبذةً عنها.
هل لهذا اعتبره الشاعر العراقي الثائر محمد مهدي الجواهري جاسوسًا للأمريكان؟! والريحاني يحل في «قلب العراق» سنة 1922 م ضيفًا على «الملك فيصل الأول» إثر تتويجه عرش العراق برعاية البريطانية المس غيروتد بيل وقتذاك مع هيمنة الاستعمار البريطاني والفرنسي على الشرق العربي ومغربه، بدأت الأفكار الماركسية تتسلل إلى أوساط المثقفين والحركيين في تلك الدول العربية المستعمرة، وقد قام أول حزب شيوعي عربي في مصر سنة 1922 م غير أن كتاب الريحاني عن «تحدر البلشفية» رغم ذلك لم يترجمه إلى اللغة العربية - وقتها - بل انبرى لترجمته - مؤخرًا - ليس ابن أخيه أمين الريحاني العاكف على تحقيق ونشر تراث عمه.. بل انبرى لذلك سنة 1988 م مترجمان لبنانيان آخران، بحماس دار نشر عُرِفَت بميولها الأيديولوجية، لكن ذلك تم بعد رحيل الريحاني بقرابة نصف قرن. وكانت بيريسترويكا غورباتشوف - بعد انتهاء فترة حكم بريجنيف المتجمدة - تلوح في الأفق، متأخرة عن توقع أمين الريحاني بقرابة أربعة عقود.
هذا ولم تنس روسيا الريحاني، رغم مرور السنين وتعاقب الأحداث، عندما أقامت مكتبة بوريس باسترناك سنة 2010 م أمسية موسيقية وأدبية من أماسي موسكو النوستالجية، احتفالًا بأمين الريحاني شاعرًا وناثرًا قرئت فيه نصوص ”ريحانية“ اختارتها المستشرقة ماريا نيكولاييفا باللغتين الروسية والعربية، مشيرةً إلى أن ما قرأته مأخوذ من ترجمة المستعرب الروسي كراتشكوفسكي، الذي افتتح دراسته أدب الريحاني سنة 1917 م بترجمة قصائده النثرية إلى الروسية، فوق صفحات مجلة مكسيم غوركي الأدبية.