ظاهرة الانكسار في رواية «الأوباش» لخيري شلبي
يصوِّر الكاتب المصري الراحل خيري شلبي في رواية «الأوباش» جوانبَ من المعاناة التي كانت تتلظى فيها معظم فئات الشعب المصري في النصف الأول من القرن العشرين، وقد برع خيري شلبي في دقَّة رسم ملامح شخصياته، كعادته في عامة أعماله الروائية، كما نجد في هذه الرواية شذراتٍ متناثرة من الرؤى النقدية التي تكشف صدق عاطفته في كتاباته، وقد رسم في «الأوباش» صورًا أنتجت ظاهرة فريدة امتازت بها هذه الرواية؛ هي ظاهرة «الانكسار»؛ حيث نطقت ألسنة شخصياته بلهجةٍ يبدو فيها بوضوح شديد أثر المعاناة التي أوجدت في قلوبهم هذا الانكسار الذي أصبح سمةً من سمات تلك الشخصيات، وتحوَّل من ظرفٍ طارئٍ إلى عادة مكتسبة ثم إلى طابعٍ شخصي في نفوسهم.
ومن ذلك تصويره للخدم الذين يجمعون الإتاوة من الناس لحساب السلطة الحاكمة؛ فهم مع عِلمِهم أن تلك الإتاوة نوع من الظلم؛ نجدهم قد استكانوا واعتادوا على الذل والانكسار، حتى أصبحوا يسمُّون تلك الإتاوة دَيْنًا، يقول خيري شلبي على لسان شيخ البلد: «فما أعرفه أن الدفع يسير، قد لا يدفع أحدٌ كلَّ الدَّين؛ لكن يدفع جزءًا، والكاشف لا يرهق أحدًا؛ بل يقول: ادفع ما عندك ونحرِّر بالباقي كمبيالة».
والمفترض أن شيخ البلد هو أحد الفلاحين أبناء تلك القرية، لكنه يتكلم وكأنَّ الحكومة تمنُّ على أهل بلدته إذْ تصبر عليهم في تحصيل ما تفرضه عليهم من إتاوة، وكأنها تتقاضى منهم دَيْنًا أصيلًا في ذمَّتهم!!.
وفي موقفٍ آخر يقول خيري شلبي على لسان «شحات» وهو السواق الخصوصي للحاج سليم: «الحق ضائعٌ ضائعٌ، مِن يوم أن وعيت وأنا أسمع الناس تتحدث عن الحق الضائع، ولم أرَ هذا الحق يَبِين أبدًا، من أدرانا؛ ربما لا يكون هناك ما يَدْعُونه بالحق هذا!!».
وهذه الكلمات تمثِّل وصفًا حقيقيًّا شاملًا للواقع المؤسف الذي كانوا يعيشونه، وتكشف ذروة الفساد الذي جعل بعض الناس يتوهمون أن الحق لا وجود له، أو أنه لن ينتصر على الباطل أبدًا، وهم مخطؤون في ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [غافر: 77]؛ فقد يموت المظلوم قبل أن ينتصر له الله في الحياة الدنيا، لكن ليس معنى ذلك أن الحق قد مات معه؛ بل ينتصر له الله في الآخرة، إضافةً إلى انتقامه من الظالم في الدنيا ليكون عبرةً لغيره، فصاحب الحق وإن مات قبل أن يعود إليه حقه؛ فإن الناس بعده يرون بأعينهم انتقام الله من الظالم، لكن الكلمات التي ذكرها خيري شلبي على لسان تلك الشخصية، جاءت لتكشف مدى الانكسار الذي دفعهم إلى ذلك اليأس والتشاؤم، ولا سيَّما أنها جاءت على لسان تلك الشخصية تحديدًا «شحات»، الذي يقول في موقفٍ آخر لوكيل النيابة الذي سأله عن كلمةٍ سرِّيَّةٍ أمره الحاج سليم أن يُبلغها للعمدة: «إنني لو قلت كلمة على الحاج؛ فسوف يُطلِق عليَّ الرصاص، ويبعث بمن يقضي على أولادي، خيرٌ لي أن أختار الموت وحدي، فلكُم أن تقتلوني الآن، ولكن الحاج سيتأكد أنني لم أخن أمانته، ولو قلتم بأنني قلتها فسيضحك؛ لأنه سوف يعرف أن موتي تحت يدكم معناه أنني لم أشَأْ قولها، وحينئذٍ سيرعى أولادي من بعدي».
وهذه الكلمات تكشف مدى الاستسلام الناتج عن وطأة الانكسار داخل تلك الشخصية، حتى إنه يرفض البوح للنيابة ضد الحاج سليم، فهو من خلال خبرته بالواقع الذي يعيشه لا يثق أن المؤسسة النيابية ستحميه من انتقامه لو باح بشيء ضده؛ فهو يعلم أن ذلك الرجل مقرَّب من السلطة الحاكمة، التي لا تحمي سوى أفرادها.
وفي مقابل هذا الانكسار الذي رسمه خيري شلبي لكثيرٍ من شخصيات هذه الرواية؛ نجده يرسم الصورة المضادة؛ وهي صورة استشراء الفساد مِن قِبَل المسؤولين كبارًا وصغارًا؛ ومن نماذج هذه الصورة قوله على لسان شيخ البلد وهو يتكلم عن العمدة: «العمدة مسكين؛ هل يرعى قُطنه أم يرعى أولاده، أم يجلس في قصر التفتيش ليلعب الدومينو؟! طبعًا لعِبُ الدومينو هذا مهمَّة من مهمَّات العمدة نحو الباشكاتب، لا بدَّ أن يقوم من أمامه كل يومٍ مغلوبًا!! أم يلفُّ البلاد والعِزَب ليحصِّل أموال أفندينا مع الكاشف؟!!».
وقد يظن القارئ أن شيخ البلد قال هذه الكلمات من قَبِيل التَّهكُّم والسخرية من العمدة، لكن سياق أحداث الرواية يوضح أنه قالها من قَبِيل تقرير الواقع، وأن هذا الواقع المليء بالفساد، كان شيئًا معتادًا عندهم.
ومن جماليات الصورة الروائية عند خيري شلبي في هذا الإطار أنه يصف الناس بلسان من يتكلم عنهم من شخصياته؛ ومن ذلك قوله على لسان الصراف الملقَّب بـ «الأسطى فانوس» وهو يتكلم عن الفلاحين الكادحين الذين كانوا في مقدمة ضحايا جشع السلطة: «فالصراف الذي يريد أن يلمَّ الغلَّة من الفلاحين لا ينجح إلا في الليل؛ والسبب أن الفلاح إذا عرف أنه سيدفع الدَّين؛ يتغيب عن الدار ولا يرجع إلا لينام، وأنا مَوتِي وسُمِّي من يماطل في الدفع، وأحب أن أتقن عملي، ثم إنني أعرف صنف الفلاح، صنفٌ لا يجيء لمن يحترمه، تعطيه فوق دماغه يركع، ويتمسكن حتى يتمكن، يأخذ منك السُّلفة ويتفرعن بعدها، والله لقد تعبتُ، الواحد منهم لا يشعر إلا وأنا فوق دماغه أقتحم الدار بلا استئذان، لا يمنعني بردٌ ولا مطر ولا ظلام، الفانوس في يدي، والشمسية في يدي الأخرى، وحقيبة الأوراق والفلوس مع خفير مخصوص».
فهذا الصراف يسمِّي الإتاوة دَيْنًا، ويصف من يتهرب من تلك الإتاوة الظالمة، بهذه الصفات التي ذكرها في كلامه، ثم إنه لا يكتفي بذلك؛ بل يتباهى بدوره الكبير في ظلم الفلاحين، فيقول: «ضيعة مولانا كانت في الأصل فدادينَ قليلة، محسوبك ضاعفها له.. أُعطي للفلاحين ديونًا، وكان معظمهم من الأعيان المالكين، سقيتهم بعض كؤوس الخمر، أعجبتْهم، طلبوها، افتتحتُ لهم خمارة، صار الأعيان يشربون ويسكرون على الحساب، ويوقِّعون على عقود بيع الأراضي مقابل كأس؛ أوباشٌ كلهم، ولا يصحُّ أن يملكوا، وفي النهاية أنا مظلوم؛ لم آخذ أكثر من عزْبة، عزبة هي مكافأتي عن خدمة عمر كامل».
والعجيب أنه يصف نفسه بأنه «مظلوم»؛ لأن ما يحصل عليه مقابل خدمته للظالمين ومساعدته إيَّاهم في الظلم؛ عائد مادي قليل لا يتجاوز «العزْبة».
وفي خضمِّ ذلك نجد تلك الرؤية النقدية الذكية من خيري شلبي، لأولئك الذين جلبوا العار لأنفسهم وعرَّضوها للظلم حين باعوا أراضيهم مقابل كأسٍ من الخمر - كما ذكر الأسطى فانوس في السطور السابقة - فاستحقوا أن يرضخوا تحت وطأة ذلك «الانكسار».