خطى المتنبي الهاربة بين ميمين
عشر رحلات مضنية قام بها عبد العزيز المانع في مصر والأردن وسوريا
في حقول الزيتون بالجوف ابتدأت الحكاية، حين أشار د. زياد عبدالرحمن السديري إلى نفر من الأكاديميين والأدباء السعوديين، كانوا في ضيافته، بأن «بسيطة» التي ذكرها المتنبي في قصيدته الهاربة من الفسطاط إلى الكوفة.. ها هي على مرامي عيونهم:
وجابت بسيطة جوب الرداء
بين النعام وبين المها
إلى عقدة الجوف حتى شفت
بماء الجراوي بعض الصدى.
لقد أوحى هذا إلى د. عبدالعزيز المانع المحقق الأكاديمي السعودي، بأن يقوم بتتبع خطى المتنبي الذي فتن به وبشعره، فراح يحقق سنة 1422 هـ كتاب «المآخذ على شراح ديوان ابي الطيب المتنبي» لابن معقل الأزدي في خمسة مجلدات، كما حقق سنة 1427 هـ كتاب «قشر الفسر» لأبي سهل محمد بن حسن الزوزني، وبعدها بعام حقق كتاب «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لأبي الفتح عثمان بن جني.. العارف بشعر أبي الطيب، والغائص على درر لآلئه، أمهر من قائلها باعتراف المتنبي.. لذلك قرر المانع منذ عودته من دعوة صاحبه سنة 2008م القيام بدراسة «ما لم يدرسه أحد قبله دراسة جادة» ظانًا أنه بمجرد الرجوع إلى ديوان الشاعر ومصادر رحلته، سوف تمكنه من إخراج بحثه المأمول، فتبين له أن ذلك وحده لا يكفي، وأنه لا بد من الاطلاع على الخرائط، ليتمثل قراءاته النظرية تمثلا جغرافيًا تطبيقيًا، فعزم على السير على خطى المتنبي، مستعينًا بمركز أطلس إدارة المساحة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع السعودية في تحديد الطريق.
فأنى له الاطلاع على خط السير هذا، وخرائطه متوزعة بين أربع دول عربية، يحتاج تتبعه الوقوف الميداني فوق أراضيها، فقام متحمسًا برحلات عشر مضنية ممتعة إلى «مصر والاردن وسوريا» بينما تأبى عليه - وقتذاك - الذهاب إلى العراق.
هنا تذكرت ما قرأته متفرقًا - قبل ذلك - من محاولات بعض الباحثين تتبع خطى رحلة المتنبي.. ومن بينها ما أصدره يوسف الشيراوي سنة 2004م بعنوان «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته» معتمدًا على ما ذكره بعض شراح ديوان الشاعر، وما قرأه من مقالات الأديب المصري أحمد رمزي الثلاث المنشورة في «رسالة» الزيات، وكذلك ما تناوله الباحث الفلسطيني يحي جابر في بحثه الضافي، محاولًا تحقيق مسار الطريق الذي سلكه المتنبي في رحلة هروبه، وقد استضاء هؤلاء جميعًا بما ذكره أبو الطيب في قصيدته الهاربة من مواقع:
أَلا كُلُّ ماشِيَةِ الخَيزَلى
فِدا كُلُّ ماشِيَةِ الهَيذَبى
وقد ضرب المتنبي برحلة التيه ضرب القمار إما لهذا وإما لذا
إذا فزعت قدمتها الجياد
وبعض السيوف وسمر القنا
فمرت بنخل وفي ركبها
عن العالمين وعنه غنى
وأمست تخبرنا بالنقاب
وادي المياه ووادي القرى
وقلت لها أين أرض العراق
فقالت ونحن بتربان ها
هذه المواقع هو ما حاول ألويز موزيل قبل قرن، الوقوف الميداني عليها وهو الرحالة المستشرق النمساوي - التشيكي، الذي حل أول عهده بالشرق العربي في القدس سنة 1895م محاولًا إجادة اللغتين العربية والعبرية أثناء دراسته التوراة، حيث انتقل إلى بيروت مدرسًا في معهد الآداب الشرقية، وكذلك درس في مدرسة الكتاب المقدس للآباء الدومينيكيين بالقدس، غير أن سحر الشرق وصحرائه الغامضة، الآخذة بألباب الرحالة الغربيين، جعله يفتتح سنة 1906م رحلاته في ربوع الشام «سوريا ولبنان والأردن وفلسطين» بالبحث الميداني لجغرافية المنطقة، والدراسة الاثنوجرافية لشعوب دولها، دون أن يخلو ذلك من الغرض السياسي، أثناء تحالف السلطنة العثمانية التركية والإمبراطورية النمساوية، في مواجهة التحالف البريطاني الفرنسي المتكالب على العالم العربي.. غير أن موزيل ركز على دراسة القبائل.. أنموذجًا كتابه «أخلاق الرولة وعاداتهم» بعد ما عاش أربعة عشر شهرًا متواصلة في ضيافة زعيمها نوري الشعلان وتحت حمايته، مخترقًا شمالي الجزيرة العربية نحو مضارب هذه القبيلة، التي أتقن لهجتها والتحدث بها والتزيي بزي أهلها، مستكشفًا بين 1908 - 1915م امتداد الصحراء العربية، كما فصل ذلك في كتابه «الصحراء العربية Arabia Deserta: A Topographical Itinerary» الصادر باللغة الإنجليزية في نيويورك سنة 1927م.
لقد ثمنت أكاديمية العلوم النمساوية المعلومات الجغرافية، التي جمعها موزيل خلال رحلاته إلى دول الشام، راسمًا الخرائط بمساعدة رفيقه الألماني رودولف سبرغر، بمسح ما بين غزة والبحر الميت شمالًا والبحر الأحمر وتبوك جنوبًا والعريش غربًا ووادي السرحان شرقًا.
كما أنه رافق سنة1912 قافلة تجارية لعشائر عبدة وسنجار إلى النجف، ومن هناك راح يقف آثاريًا على موقع الخورنق المذكور في قصيدة المنخل اليشكري الشاعر الجاهلي، ودارسًا اثنوجرافية الجنوب العراقي واصفًا النجف وكربلاء في كتابه «الفرات الأوسط» وذلك بعدما قام بصحبة «البرنس» الأمير سكتس آل بوربون «العائلة الملكية الأوروبية» ومعهما رودولف توما سبرجر مساعد موزيل العلمي الدائم برحلة إلى دير الزور ليصدر كتابه عن الشام سنة 1927م.
فياترى كيف راوده تتبع طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى الكوفة.. وهو يمتطي سنام الإبل وظهور الجياد في شمال صحراء الجزيرة العربية.. ومن ذا الذي أوحى إليه بذلك؟
هذا ما أغفلته الطبعة العربية عن نصها الإنجليزي المشار إليه، في ما ترجمه عبدالإله الملاح الصادر سنة 2010م بعنوان «في الصحراء العربية.. مغامرات موزيل في شمال جزيرة العرب بين 1908 و1915».
يذهب بريجيس بلاشير المستشرق الفرنسي الذي نال الدكتوراه بأطروحته عن حياة المتنبي وشعره في جامعة السربون سنة 1935م.. يعتبره تلميذه أندريه ميكيل دستور الدراسات «المتنبئية» في أوروبا بامتياز!.. يذهب بلاشير في أطروحته هذه بأن الاستشراق الأوروبي خاصة «الفرنسي والالماني» اهتم بحياة المتنبي وشعره سلفستر دي ساسي الفرنسي وغيره.. غير أنه يؤكد بأن المستشرقين الألمان كانوا أعمق في تناولهم حياة أعظم شاعر عربي وشعره.. وفي طليعتهم المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر بريجستال، الذي ترجم ديوان المتنبي ترجمة كاملة إلى اللغة الألمانية سنة 1850م بمقدمة دفاعية عن الشاعر العربي الذي نال إعجابه، ربما من نفس المخطوطة التي اعتمدها فريد رخ في تحقيقه الديوان بطبعة برلين العربية سنة 1861م، معتمدًا على نسخة الواحدي في شرحه ديوان المتنبي، وهو ما أشار إليه موزيل في تتبعه الميداني خطى المتنبي بذكر المواقع في كتابه الآنف الذكر.
أحسب أن هذا هو ما حفز موزيل على تتبعه ذاك، خاصةً وأن المستشرق الألماني «بوهلن» الذي أشاد بلاشير بتحقيقه في كتابه عن المتنبي، قدم هو الآخر دراسة نقدية سنة 1828م بعنوان «شرح شعر المتنبي الشاعر العربي المشهور» مركزًا على قصيدة المتنبي الهاربة «ألا يا ماشية الخيزلى» التي وصف فيها كما يقول «بوهلن» رحلته في بلاد العرب عقب خروجه من مصر، مستهديًا في ذلك كتاب «الصبح المنبي في حيثية المتنبي» للشيخ يوسف البديعي.
من هنا نجد المهاد الذي انطلق منه موزيل، وهو يخوض غمار الصحراء العربية، من دمشق إلى تبوك والجوف عابرًا السماوة والرهيمة انتهاءً بالكوفة، واصفًا رحلة المتنبي من مصر إلى العراق سنة 961م بأسلوب شاعري كما ذكر ذلك في النص الإنجليزي لكتابه الآنف ذكره «Arabia Deserta: A Topographical Itinerary» حيث وصل بموكب صغير على ظهور الجمال، عابرًا القلزم! - أي البحر الأحمر - إلى «نخل» عند ممر النقب، وهذا ما آخذه عليه د. المانع في كتابه «على خطى المتنبي» مؤاخذاته البحثية الميدانية المدققة، وقد توجه المتنبي - يواصل موزيل - طريقه متوجهًا إلى الجنوب الشرقي نحو «وادي الغضى» ف «وادي نجه» قريبًا من «تربان» مرورًا ب «البويرة» بالقرب من «وادي القرى».. المختلف على موقعه، ومنهم موزيل الذي «توهم» أنه على مقربة من الحجاز في الطريق إلى المدينة «المنورة»!
حيث رأى المتنبي هناك النعام والظبا - كما يصف ذلك في قصيدته الهاربة.. وفي الجوف شرب من مياه «الجراوي»، بينما سقى ركائبه في «الرهيمة» قبل أن ينتهي عائدًا إلى مسقط رأسه في الكوفة.
فهل كان موزيل دقيقًا في وصف الطريق الذي سلكه المتنبي، رغم ريادته في تتبع خطاه قبل المانع بمئة عام؟
لقد ذكر «نخل» واصفًا إياها بالمستوطنة الواقعة في وسط شبه جزيرة سيناء، ومن صحراء النقب سلك المتنبي طريقه إلى «وادي عربة» المتصدع، إذ يمتد الطريق إلى شمالي الجزيرة العربية عند «تربان» وقد وصفها موزيل بأنها عين سقاية على بعد أربعين كيلًا شمال العقبة متوهما - هو الأخر - بأن «وادي القرى» كما أسلفت القول - قريب من الطريق إلى المدينة «المنورة» كما أنه يعتبر «وادي نجه» قريبًا من بلاد الرافدين..
ويواصل موزيل بأن المتنبي انطلق من نبع «تربان» إلى «القويرة» حول «حسمى» ف «وادي إرم» حيث يرتفع شرق «القويرة» عبر المنحدر الحاد لنهاية جبال السروات، إذ دار المتنبي حوله قريبًا من تلال «الكفاف» ليروي عطشه في «كبد» ويحتمل موزيل بأن المتنبي سار شرقًا إلى «صوار» التي تحمل اليوم - كما يقول - اسم «صوير» مستشهدًا في ذلك بما ذكره الواحدي في شرحه ديوان المتنبي، وبعد المرور بمستوطنات «عقدة الجوف» حيث يوجد واد عميق نصفه مملوء بالرمال يقع جنوب شرقي واحة دومة الجندل ما أصبح معروفًا ب «الجميعي» أما «الجراوي» فهو بئر ومزرعة منعزلة تقع على بعد ثلاثة أكيال جنوب الواحة التي تتجول فيها الظبا والنعام، وبين قمم «اعكش» المنخفضة وجنوب النجف توقف المتنبي في «الرهيمة» حيث صدح المتنبي برائعته «ألا يا ماشية الخيزلى» وهو يشارف مطالع الكوفة.
أما د. عبدالعزيز المانع وقد عزم على تتبع خطى المتنبي سنة 2008م فإنه لم يكتف القيام برحلة واحدة، وإنما تجاوزها بعشر رحلات مضنية، قام بها في مصر والأردن وسوريا، إضافة إلى شمال المملكة العربية السعودية، ابتدأها من الرياض إلى تبوك ثم الاتجاه شرقًا إلى الجوف وصولًا إلى الحدود السعودية العراقية، في أقصى شرقي شمال الجزيرة العربية، وفي رحلة أخرى إلى تبوك ناقش ذوي الخبرة من أهلها في الأمكنة، مما يتوقع أن مر بها المتنبي في رحلته الخائفة المتوجسة القلقة، بين «حسمى» و«كبد» و«الكفاف» و«البوبرة» و«العلم» و«حوش» و«الشغور» و«الجميعي» و«صور» و«الجراوي» و«الأضارع» و«النقع» و«تربان» و«البياض» باحثًا عن جبل «إرم» الذي أقام عنده المتنبي شهرًا ضيفًا على قبيلة فزارة.. وفيه توقف المانع كما توقف المتنبي ماثلًا أمام خياري ناقته، متسائلًا: أين يتجه عندما قطع سيناء، ووقد توسط بين «وادي المياه» و«وادي القرى» الذي توهم موزيل أنه يقع في الطريق إلى الحجاز مما دفع د. المانع - إلى التحقيق في بيت المتنبي:
وأمست تخبرنا بالنقا
ب وادي المياه ووادي القرى
مفندًا ما ذهب إليه موزيل بأن وادي القرى ربما يعني الحجاز في الطريق إلى المدينة «المنورة» أما وادي المياه فيعني أرض الجزيرة في العراق معتمدًا - أي المانع - على ياقوت الحموي في «معجم البلدان» حين وصف دومة الجندل - دومة: من القريات من وادي القرى إلى تيماء أربع ليال.. إنه وادي القريات كما يستنتج د. المانع قاطعًا على أن «دومة» تسمى وادي القريات أيضًا، وأن المتنبي حين ذكر وادي القريات في بيته السالف الذكر، وهو قادم من الشام قاصدًا الكوفة عن طريق دومة الجندل الواقعة بوادي القرى كان قد أصبح في ملتقى الطريق بين الشام والكوفة.
ولتعذر الدخول إلى العراق لوقوفه على رهيما أو الرهيمة، استعان د. المانع بالمحقق والأديب العراقي هلال ناجي لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة، وقد وصف له المكان الذي تنتسب إليه جماعة الرهيمي وربما يقطنه بعضهم! وبهذا سد نقص عدم تمكن المانع من وقوفه الميداني عليه.
هذا ولم يفته الوقوف في ما يتوقع أنه موقع الفسطاط القديمة، بين جامع عمرو بن العاص وجامع أحمد بن طولون حيث كان المتنبي يلقي قصائده الكافورية. ومنها فر عائدًا إلى مسقط رأسه قبل يوم الأحد 19 من ذي الحجة سنة 350 هجرية.
يقول المانع في هذا السياق:
إذا كان المتنبي قدم من بلبيس - سيناء - أيلة والعقبة، متجهًا إلى الكوفة قد مر ب «حسمى» فلابد أن ابدأ من هناك انطلاقًا إليها من الرياض. موثقًا جميع مواقع خطى المتنبي في كتاب أنيق الطباعة مزود بصور رحلاته العشر المثيرة، صدر سنة 2017م بعنوان درامي «على خطى المتنبي» هذا الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وما يزال.