النقاشات الحرّة حول المرجعية الدينية في الخليج العربي!
المقالتان اللتانِ كتبتهما في ”النهار العربي“، في شباط «فبراير» المنصرم، والتي حملت الأولى عنوان ”المرجعية الدينية في الخليج... فكرة تجاوزتها الدولة المدنية“، والثانية ”حدود أدوار الفقيه في الدّولة الوطنيّة الحديثة“، أحدثتا نقاشاً بين عدد من الباحثين والمعنيين حول موضوع ”المرجعية“، خصوصاً أنّ الأفكار التي قدّمتها سعت لأن تجترح تصوراً حديثاً لعلاقة الإنسان المعاصر بالفقه، من دون أن تقصي الدينَ عن الحياة العامة، وفي الوقت ذاته لا تعطي الفقهاء سلطةً مطلقة أو مكانةً مقدّسة!
بعض النقاشات كانت علنية عبر منصّة ”إكس“، واشترك فيها كلٌ من المستشار في ”دائرة الأوقاف والمواريث“ في السعودية الكاتب كامل الخطي، والكاتب البحريني عادل مرزوق، ورئيس ”مؤسسة سومر للشؤون الدولية“ في العراق د. محمد الشمري؛ حيث تنوعت وجهات نظرهم، وتباينت الآراء، فكل شخصية لها نظرتها الخاصة والمختلفة عن الآخر.
إنّ أهمية ما تقدّم به الخطي ومرزوق والشمري، أنّهم مارسوا التفكير بشكلٍ علني في موضوع لا يُراد له أن يُطرح في المحافل العامة، حيث يعتبره كثيرون ملفاً ذا صبغة مذهبية محدّدة، وأنّه من اختصاص علماء الدين وحدهم في الحوزات العلمية، وأنّ عامة الناس أو حتى المثقفين ليس بمقدورهم أن يكونوا شركاء حقيقيين وفاعلين في تحديد ماهية الفقيه وأدواره وحدود سلطته!
هذه النقاشات حتى لو لم تصل إلى رؤية مشتركة اليوم - وليس مطلوباً منها التوافق أو التطابق أساساً - إلاّ أنّها ستقود إلى فهم أكثر عمقاً لمكانة الفرد في الدولة الوطنية الحديثة، واستقلاليته، ونزعته إلى أن يكون حراً في تفكيره ويجترح علاقته الخاصة مع الدين، من دون وصايات فوقية، أو فهم قديمٍ لا يلبّي احتياجات الإنسان المعاصر، خصوصاً أنّ العلاقة القديمة بين ”المُقلِد“ و”المرجع الديني“ لا يمكنها أن تستمر بالوتيرة ذاتها، وأيضاً لا يستطيع ”المرجع“ أن ينازعَ الدولة الوطنية سلطتها، وهي سلطة ليست مطلقة أو استبدادية كما يصورُ بعض نقادها، بل سلطة تقوم على أساس ”سيادة القانون“ العادل ومبدأ ”المواطنة الشاملة“ والعمل المؤسساتي والحوكمة.
إنّ إشكالية سلطة علماء الدين أنّها تقوم على قوة ”الغيب“ أي ركونها إلى ”الحق الشرعي“، وبذلك ترى في من يخالف رأيها مخالفاً لـ ”الدين“ وهنا مكمن خطورتها، والفرق بينها وبين باقي القوى الأخرى، كسلطات رجال الأعمال وزعماء القبائل وسواهم من مكونات المجتمع، والتي لا تمتلك ”رأس المال الرمزي“ الذي يمتلكه ”الفقيه“.
لا يمكن بحالٍ من الأحوال إقصاء الدين من الحياة العامة، فذلك تطرفٌ لا يستقيم، ولا يصحُ أن يُقال للفقهاء الذين يمتلكون العلم الشرعي والحكمة والوعي والفهم بتطورات العصر ويحترمون الدولة والحرّيات العامة، لا يصح أن يُقال لهم أن لا مكان لكم في المجتمع، لأنّ ذلك من شأنه أن يقود إلى نشوء تيارات متشدّدة موازية تنمو في الخفاء. إنما الأكثر ملاءمة هو أن يتجاور في المجتمع مختلف الفاعلين، ويمارسوا أدوارهم بما يعمل على تطور المجتمع وتنميته وصون سلمه الأهلي، ويكون الجميع سواسية تحت سقف القانون.
هذه الأفكار إذا تمّ طرحها بلغةٍ هادئة، علمية، شفافة وبعيدة من الصدامية المجانية، ستكون ذات تأثير حتى على أوساط المتدينين، ولن تقف حدودها عند النخب المدنية.
ما دفعني لقولِ ذلك، أنّ ردود الأفعال المؤيدة لمقالاتي حول ”المرجعية الدينية“، أتتني من علماء دين، ومن شخصيات قريبة من الأوساط العلمية في الحوزات، وهنا أقتبس بعض الشواهد التالية:
الرسالة الأولى، كانت مختصرة وواضحة، كتب صاحبها التالي: ”مقال رائع وتشخيص صائب“، وفي ذلك إشارة إلى قبوله بالقراءة النقدية التي قدّمتها في مقاليَّ وعدم توجسّه منها.
الرسالة الثانية، كانت مطولة، أقتبس منها التالي: ”من أجل تصويب العلاقة بين المرجع والمقلد، لا بدّ من إعطاء مجال واسع من الحرّية للعقل، وتحريره من خلال توضيح أسس العلاقة بين المرجع ومقلّديه، كما هو حالها بين الطبيب ومقلّديه، أو أي صاحب اختصاص ومراجعيه في مجال اختصاصه، القائمة على الثقة بعلمه... وليس على أساس القداسة التي تجعل من التابع بمثابة المنقاد المسحور الذي لا يقدر على شيء“.
هاتان الرسالتان دليل على أنّ هناك تقبلّاً لدى بعض الأوساط المتدينة لوجهات النظر الجديدة، وأنّ هذه الآراء الناقدة عندما تساجلُ بصبرٍ ستجد من يصغي لها، حتى وإن كانت صريحة ومباشرة.
بالتأكيد هنالك ممانعون كثر، وهنالك علماء دين وتيارات متشدّدة ومرجعيات لا تقبل أن تكون أفكارها محل نقاش، بل تسعى لمزيد من الهيمة والسلطة، غير عابئة بالتطورات التي تجري في دول الخليج العربي.
في كانون الثاني «يناير» 2021، نشرتُ مقالاً في موقع ”النهار العربي“، أشرتُ فيه إلى أنّ أي فقيه يريد أن يكون مرجعاً دينياً عليه ”أن يدرك أنّ السمع والطاعة العمياء لم تعد موجودة، وأنّ من يؤدون فروض الولاء هم اليوم في تناقص، وأنّ الجيل الجديد، هو جيل السؤال والبحث والتحرّر والخروج عن طوق الطائفة والجماعة، والاندماج في خطاب إنساني كوني“، وتساءلت: ”هل هذا النوع من المجتهدين متوافر اليوم، أم أنّهم لم يحن زمنهم بعد؟“.
أعتقد أنّ هذا السؤال يحتاج إلى نقاشٍ حقيقي بين الباحثين والمتخصّصين، كي تتبلور أفكار جديدة، مدنية، غير استئصالية، قادرة على أن تنحاز إلى ”الإنسان“ ورفاهيته وتنميته، وأيضاً تحافط على استقراره الذاتي والروحي، من دون أن تضع عليه أغلالاً هي ليست من الدينِ في شيء... وللحديث تتمة.