الإسلام... والآخر
الإسلام خاتم الرسالات السماوية، ومحمد ﷺ خاتم الأنبياء والمرسلين، والقرآن الكريم آخر اتصال بين السماء والأرض، واضعاً دستور ومنهج رباني للبشرية حتى قيام الساعة.
وقد أقر الإسلام - وهو دين الله الحق - الاختلاف كسنة من سنن الله في الكون ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: آية 93] .
وقوله تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الشورى: آية 8].
وقوله تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: آية 118].
وبذلك أقر الإسلام حرية الاعتقاد ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: آية 256].
والإسلام كرم النفس الإنسانية بصفة عامة، تكريم على الإطلاق، ليس على أساس اللون أو الجنس أو العرق أو العقيدة مصداقاً لقوله تعالى ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: آية 70].
وهذا تكريم عام للجنس البشري، مسلمين وغير مسلمين، وفي السنة النبوية الشريفة، أخرج البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز باب من قام لجنازة يهودي حديث ”1250“ وصحيح مسلم حديث ”961“ واللفظ له: ”عن ابن أبي ليلى أن قيس بن سعد وسهل بن حنيف كانا بالقادسية فمرت بهما جنازة فقاما، فقيل لهما: أنه من أهل الأرض - أي جنازة غير مسلم من أهل تلك الأرض - فقالا: إن رسول الله ﷺ مرت به جنازة فقام، فقيل: إنه يهودي. فقال:“ أليست نفساً “.
وفي الحديث الشريف أيضا: روى أبو بكرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: ”من قتل معاهدا في غير كنهه، حرم الله عليه الجنة“ رواه أبو داود 2760، وأحمد 20393، والحاكم النيسابوري 2631، وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع 6456.
ومن هنا اهتم الإسلام في قرآنه الكريم، وسنة نبيه، وتشريعاته بقواعد وأسس التعامل مع الآخر من غير المسلمين المختلفين في العقيدة، وأرست الشريعة الإسلامية قواعد التعامل مع غير المسلمين في السلم والحرب والمعاهدات والتعايش السلمي، والمعاملات المالية، وحقوق غير المسلمين كمواطنين أو مستأمنين، وهي قواعد تقوم على تكريم النفس البشرية، والتسامح والصفح الجميل، والحوار وحرية الاعتقاد، وشروط وأخلاقيات الحرب.
والإسلام يعترف بجميع الأنبياء والمرسلين السابقين، ويحفظ مقام النبوة، بل من العقيدة الإسلامية الإيمان والاحترام لجميع الأنبياء، والكتب السماوية قبل التحريف.
- الحوار: اتخذ القرآن الكريم منهج الحوار والجدال بالتي هي أحسن، وسيلة إقناع غير المسلمين في أمور العقيدة أو القضايا المشتركة أو ما يسمى ”القواسم المشتركة“، وأسلوب الحوار هو أرقى أسلوب للتعامل عرفته البشرية وسبق به الإسلام ما يدعيه الغرب الآن من أساليب الدبلوماسية والسياسة في الأمور الخلافية بين الدول، قال تعالى (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت: آية 46] العنكبوت 46.
وفي سيرته ﷺ الكثير من المواقف التي اتخذ فيها الرسول الكريم أسلوب الحوار والجدال بالحسنى وسيلة للدعوة إلى الإسلام، وإقناع مشركي مكة في بداية الدعوة الإسلامية، فها هو ﷺ يستمع إلى أحد سادات قريش ”عتبة بن ربيعة“ وقد جاء يعرض على الرسول المال أو الملك أو العلاج مما دفعه إلى الدعوة إلى الإسلام، ظانا منه بأنها دعوة لغرض دنيوي وليس رسول موحى إليه، فما كان من الرسول ﷺ بعد أن فرغ عتبة من كلامه أن قال: ”أقد فرغت يا أبا الوليد؟، قال: نعم، فقال ﷺ: فاسمع منى:“ فتلى عليه الآيات 1 - 5 من سورة فصلت، ورجع عتبة إلى أصحابه متغير الوجه قائلاً لهم إنه ما سمع مثل هذا القول، وأنه ما هو بالشعر، ولا بالسحر ولا بالكهانة، وخلوا بين محمد ودعوته.
وضع الإسلام ممثلا في سيرة رسوله الكريم، وفي قواعد شريعته السمحة، قواعد وأخلاقيات التعامل مع غير المسلمين من الرسل أو الرؤساء أو الزعماء، حتى في حال العداء وتجاوزاتهم، وبهذا فقد سبق الإسلام النظام الدولي الحديث فيما يعرف بالبروتوكولات الرسمية في العلاقات الدولية.
- فعندما أرسل الرسول ﷺ رسالة إلى كسرى الفرس يدعوه فيها إلى الإسلام، غضب كسرى من هذه الرسالة وشق رسالة الرسول الكريمة، وطلب من ”باذان: عامله على اليمن أن يأت له برسول الله ﷺ، فأرسل باذان رجلين أحدهما“ بابويه ”والآخر يدعى“ خرخسرة" ومعهما رسالة إلى الرسول يأمره كسرى أن يأتيه ويهدده...!!!.
دخل الرجلان على رسول الله في المدينة وسلماه رسالة كسرى الغشومة، فما كان من رسول الرحمة ﷺ إلا أن قال لهما: أبلغاه أن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهى إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له: ”إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء“.
ثم أعطى الرسول ﷺ خرخسرة هدية قيمة حزاما من ذهب وفضة، وانصرف الرسولان آمنين، رغم ما برسالتهما من تهديد وصلف وكفر بدعوة الرسول.
وكانت رسائل الرسول إلى قيصر الروم، أو كسرى فارس، أو نجاشي الحبشة أو مقوقس مصر يدعوهم إلى الإسلام، يبدأها رسول الإسلام بعبارة ”من محمد عبد الله أو من محمد رسول الله.. إلى،...“. عبارة كلها التواضع والتسامح والثقة في صفته النبوية التي تفوق كل صفة ووصف.
واحترم رسول الإنسانية والرحمة في سيرته العطرة عهوده ومواثيقه مع يهود المدينة بني قريظة، والنضير، وبني قينقاع، ولم يحاربهم إلا بعد نقضهم هم للعهود وخياناتهم المتكررة للمسلمين ومحاولات الإيذاء بمسلمي المدينة.
وبعد أن غنم المسلمون من حصون خيبر اليهود بعد فتحها عدة صحف منها نسخ للتوراة، جاءت اليهود تطلبها، فتشاور الرسول ﷺ مع صحابته، وتم ردها إلى اليهود، وقد جاء ذلك في" المغازي للواقدي ج 1، ص 681.
أقر القرآن الكريم مبدأ العدل والإنصاف، والبعد عن الظلم والإجحاف مع غير المسلمين بالقاعدة القرآنية العظيمة: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ [المائدة: آية 8].
ويؤكد الرسول مبدأ العدل المطلق حتى مع غير المسلمين بقوله ﷺ: ”ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة“. أخرجه أبو داود ”3052“ وصححه الألباني في صحيح الجامع ”2655“.
ويؤكد الرسول ﷺ هذا المبدأ أيضا في معاهداته مع نصارى نجران بقوله: ”ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر“. وأرسل ﷺ صحابيا جليلا يباشر تنفيذ هذه المعاهدة والشروط الضامنة للعدل للنصارى هو أمين الأمة وأحد المبشرين بالجنة ”أبو عبيدة بن الجراح“ رضي الله عنه.
وقصة العدل في ”قصة طعمة بن أبيرق“ المسلم الذي سرق درعا من جار له مسلم، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، وخبأها طعمة عند رجل يهودي يقال له ”زبد بن السمين“ فلما طلبت الدرع وتتبع أصحاب الدرع أثر الدقيق، اتهموا اليهودي بسرقته، ودفع اليهودي بأن طعمة قد دفعها إليه، وهم الرسول بمعاقبة اليهودي على أنه السارق، فأنزل الله تعالى هذه الآيات من سورة النساء معلنة الموقف الحق، منصفة ومبرئة اليهودي، فأي دين منصف عادل حق: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: آية 105] إلى قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: آية 112].
وينظر في أسباب نزول هذه الآيات في تفسير الطبري ج 4 ص 265، وابن كثير ج 1 ص 731، والقرطبي ج 3 ص 327، وغيرهم من كتب التفسير.
أقر الإسلام العلاقات مع الشعوب والدول غير الإسلامية على أساس عدة قواعد وأخلاقيات وتشريعات مفصلة في التشريع الإسلامي، وفي التطبيق العملي في سيرة الرسول الكريم ﷺ، وما جاء في آيات القرآن الكريم التي يمكن إيجازها فيما يلي:
- الكرامة الإنسانية للبشر جميعاً، وكما سبق تكريم الإنسان على الإطلاق دون تمييز على أساس الدين أو اللون أو العرق، واعتبار الناس جميعا أمة واحدة، خلقوا من نفس واحدة، والاختلاف سنة من سنن الله في الكون، والاختلاف حتى في العقيدة أو الدين لا يدعو إلى العداء والتشاحن.
- التعاون الإنساني: فقد عقد الرسول ﷺ حلفا أساسه التعاون على البر بالمواثيق والعهود مع يهود المدينة، وكان أساس هذا التعاون أن يتضافر اليهود على دفع الاعتداء عن المدينة، لكنهم خانوا ونقضوا العهد، وهذا ما يسمى الآن ”التعايش السلمي“.
دعا الإسلام إلى التسامح والصفح الجميل المبني على القوة وليس الذلة، وقد جاءت آيات القرآن الكريم تدعو إلى الصفح الجميل والتسامح: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: آية 34] . وقوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: آية 199].
وكانت علاقات الرسول ﷺ في سيرته العطرة قائمة على التسامح والعفو والصفح الجميل مع غير المسلمين والأعداء، في صلح الحديبية وفتح مكة، وغيرها من المواقف في السيرة النبوية.
- الحرية، والعدل والفضيلة مع غير المسلمين، وقد سبق الحديث عن هذه الأسس.
- المعاملة بالمثل، وهو مبدأ إسلامي هام في العلاقات مع غير المسلمين، فالتسامح والصفح والعدالة، لا تعني غمض حق الدولة الإسلامية في رد اعتداء المعتدين، ورد الاعتداء بالقدر الكافي المناسب للاعتداء، وهذا حماية للدولة الإسلامية.
- الوفاء بالعهود: من أهم ركائز العلاقات مع غير المسلمين هو الوفاء بالعهود في معاهدات السلام والأمان وعدم الاعتداء، والوفاء بالعهود في الإسلام قوة وفضيلة ومبدأ هام، طالما التزم به الآخر، لأن الإسلام في جوهره دين سلام يدعو إلى السلام، ولكنه يرفض الاستسلام والخيانة.
- الأصل في الإسلام هو السلم، ووضع الإسلام شروطا وأحوالا محددة للحرب، منها رد الاعتداء، ومناصرة المسلمين في دار ظلم غير مسلمة، أو الجهاد لنشر الدين في بداية الدعوة الإسلامية، ويمكن إبراز ما جاء به الإسلام من تأكيد مبدأ السلم في العلاقات بين الشعوب، أنه قبل الإسلام كانت الشعوب والأمم والقبائل تعيش بمبدأ قانون الغاب، حيث الأساس هو الاعتداء والإغارة والحروب فيما بينها.
قسمت الديار في الإسلام إلى دار الإسلام، ودار الحرب، ودار العهد.
- دار الإسلام: هي الدولة التي تحكم بسلطان المسلمين، والقوة والمنعة فيها للمسلمين، ويجب على المسلمين الدفاع والذود عن هذه الدار وحمايتها.
- دار الحرب: هي الدار التي لا يكون فيها السلطان والمنعة للحاكم المسلم، ولا عهد بينها وبين المسلمين، ومن هنا يجب على المسلمين الحذر لهذه الدار، والاستعداد لرد الاعتداء منها على دار الإسلام.
- دار العهد: وهي البلاد التي ليست تحت حكم الإسلام، ولكن لها عهد محترم مع الدولة الإسلامية، وتلتزم به، ولا يخشى منها الاعتداء على ديار الإسلام.
ويمكن إيجاز حالات الحرب في الإسلام دين السلام والتعايش إلى الحالات الآتية:
- الجهاد ونشر الدين، وهذا تحقق في بداية الدعوة الإسلامية.
- رد الاعتداء عن ديار الإسلام.
- مناصرة دولة إسلامية أو أقليات مسلمة تتعرض للظلم والقهر من دول أخرى.
- نقض العهد بين دولة إسلامية ودولة أخرى وإثبات خيانتها وضررها لدولة الإسلام.