من حرب الإبادة إلى التجويع
أسبوع حافل بالأحداث التي حملت الكثير من الدلالات على حدوث تغير في المزاج الشعبي والرسمي، على مستوى العالم، تجاه ما يجري من حملة إبادة تمارسها إسرائيل بحق غزة والشعب الفلسطيني المظلوم. لعل الأبرز بين تلك الأحداث، إقدام الطيار الأمريكي، رون بوشنل، البالغ من العمر خمسة وعشرين عاماً، على حرق نفسه أمام مبنى السفارة الإسرائيلية في بلاده، احتجاجاً على المجازر الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال، في قطاع غزة. وقد شاهد العالم بأسره، سواء على شاشات محطات التلفزة، أو في مواقع التواصل الاجتماعي، الشاب وهو يصبّ الكيروسين على جسده، ويشعل النار فيه، ليرحل بعدها إلى العالم الآخر، ليؤكد أن رفض الظلم ومقاومته، ليسا حكراً على الذين يعانون بشكل مباشر من تبعاته.
الحدث الآخر، الذي شغل وسائل الإعلام هذا الأسبوع، هو تزامن حملات الإبادة التي تشنها إسرائيل بحق سكان غزة، مع حملة تجويع بحق الشعب المحتل، في سابقة لا نظير لها في هذا القرن، نستعيد من خلالها الحصار الذي فرضته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على العراق، منذ عام 1990، حتى احتلاله عام 2002، مع الفارق بين حجم دولة العراق، وقطاع غزة، وقدرة العراق على المناورة، واستثمار موقعه المجاور لإيران وتركيا وسوريا، في كسر الحصار المفروض عليه أممياً.
لقد تسبّب الحصار، في وفاة عدد من الأطفال، وتهديد الكثير من شعب غزة بالموت والمرض. ويضاعف من حدة الأزمة التي يعاني منها الفلسطينيون في القطاع، افتقار القطاع الصحي، لأبسط مستلزمات التشغيل من أدوية ومعدات، ووسائل أخرى.
الحدث الأكثر بشاعة وشناعة، هو الذي أخذ مكانه يوم الخميس في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، وهو تعرض مواطنين فلسطينيين، في شارع الرشيد، بمدينة غزة، لمجزرة إسرائيلية، أثناء تجمعهم للحصول على بعض المواد الغذائية، راح ضحيتها 112 شخصاً، ليضيف جيش الاحتلال، جريمة أخرى إلى سلسلة جرائمه الممتدة، منذ زمن طويل. ولسوف تتواصل هذه المجازر ما استمرّ الصمت الدولي والخذلان العربي، في مواجهة الصلف والغطرسة الإسرائيلية.
لقد اتضح للقاصي والداني، الدعم غير المحدود، من المال والسلاح، الذي تقدّمه ولا تزال، إدارة الرئيس الأمريكي، جوزيف بايدن لحرب الإبادة الإسرائيلية، بحق المدنيين العزل، واستخدامها المفرط لحق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي، للحيلولة دون صدور أي قرار بوقف إطلاق النار ويدين ممارسات إسرائيل اللاإنسانية بحق الفلسطينيين. بل إن الأمر الأكثر مرارة ومدعاة للألم والسخرية، هو تصريح بايدن الأخير تجاه المجزرة التي ارتكتب بحق الجياع، بأنه غير متأكد من ارتكاب إسرائيل لها، وأنها ربما نتجت عن تدافع كبير للجياع، تسبّب في حدوث حالات دهس أدت إلى وفاة عدد كبير منهم. يقول بايدن ذلك، وهو يعلم أن ذلك كذب فاضح، حيث عرضت القنوات التلفزيونية المحلية والدولية، ومن ضمنها قناة الجزيرة التي تبث بأكثر من لغة، مشهد الجريمة الإسرائيلية بوضوح، وبشكل لا يرقى إليه أي شك.
إننا هنا إزاء مشهدين متناقضين، يحدثان في آنٍ معاً. إدانات شعبية دولية، غير مسبوقة، لممارسات إسرائيل بالأراضي المحتلة، تتهمها صراحة بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية بحق سكان غزة، وتنتصر للقضية الفلسطينية، وتطالب بحق الفلسطينيين في الحرية وتقرير المصير. مظاهرات تشقّ شوارع لندن وواشنطن وبرلين وهامبورغ، ومعظم العواصم والمدن الأوربية، فضلاً عن تعاطف شعوب أمريكا اللاتينية، وحكوماتها مع الشعب الفلسطيني، ولا يختلف الوضع عن ذلك كثيراً في القارة السمراء؛ حيث تقف حكومات إفريقيا وشعوبها مناصرة لحق الفلسطينيين في الحياة الحرة الكريمة، وترفض بشكل حازم حرب الإبادة الإسرائيلية بحقهم.
والموقف الآخر، هو الداعم للعدوان، وتقوده أمريكا وبريطانيا وألمانيا وكندا وأستراليا، وعدد آخر، من الدول الأوروبية. ومن بين المواقف الأكثر عنجهية ومرارة، تصريح وزيرة الخارجية الألمانية، بأن أمن إسرائيل هو أهم كثيراً من حياة المدنيين الفلسطينيين، في سابقة عنصرية مقيتة وخطيرة، لم يبرز ما يماثلها، من قبل أشخاص لا يزالون على رأس السلطة في بلدانهم.
المطلوب لوقف العدوان، هو استمرار الضغط الشعبي العالمي، على الحكومات المعنية، لكي تتبنى موقفاً صريحاً، يطالب بوقف فوري للعدوان على غزة، ورفع الحصار المفروض عليها، وتقديم مختلف أشكال الدعم والعون لشعبها، بما في ذلك توفير الطعام والدواء، والمساهمة في إعادة إعمار ما خلفه العدون الإسرائيلي عليها.
ليس ذلك فحسب، فإذا أخذنا بمقولة أهل مكة أدرى بشعابها، فإن من البديهيات أن وحدة مختلف المكونات السياسية للشعب الفلسطيني، في هذه المرحلة، تأتي على رأس الأولويات لتصليب كفاح شعب غزة، في مواجهة العدوان وإحباط أهدافه. إن هذه الوحدة ستضيف، دون شك، ثقلاً كبيراً للنضال الفلسطيني، وستبرز صورته الناصعة، وتعجّل في تحقيق تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فوق التراب الوطني.
ومن جهة أخرى، فإن من الأهمية بمكان في هذه المرحلة، تصليب الموقف العربي الرسمي، تجاه رفع الحصار الجائر، على غزة، ووقف العدوان وارتكاب المجازر الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، بقطاع غزة والضفة الغربية والقدس، والضغط المستمر من أجل تلبية أماني وتطلعات الشعب الفلسطيني في الاستقلال والحرية والانعتاق.