بشارة السماء
المبعث الشريف انعطافة في تاريخ البشرية فقد أقبل البشير النذير بالتعاليم الإلهية التي تحرر العقل الإنسان من خرافات الشرك وما وصلت إليه من انحطاط بلغ مستوى عبادة الأصنام واعتقاد تأثيرها في هذا الكون الفسيح، وعلى المستوى السلوكي فقد ساءت أخلاقهم وانتشرت بينهم العصبيات والاحتراب بينهم المؤدي إلى سفك الدماء وسبي النساء، وكان شرب الخمور عندهم كشرب الماء لا تخلو منها منادماتهم ومجالسهم، وغيرها من الممارسات القبيحة حتى عد عصرهم بالجاهلية والظلام المطبق، فأنار الله تعالى نفوس الناس بالرحمة المهداة للعالمين بالتوحيد ومكارم الأخلاق والفضيلة، وأخرجهم من ظلمات الشرك والمنكرات وهذب نفوسهم من الأخلاق الشرسة والتصرفات الهوجاء.
وكان لرسول الله ﷺ موعد وميقات مع رب العالمين ليؤدي له حق الطاعة وتحقيق العبودية المطلقة، في أجواء روحية يجد فيها رسول الله ﷺ اللذة والراحة الحقيقية باستشعار العظمة الإلهية في فؤاده، وليس هناك أعظم من التفكر والتأمل بين ألوان العبادة، وهذا ما كان يمارسه ﷺ في غار حراء فيتأمل في هذا الكون الفسيح وما يحويه من مخلوقات الله تعالى، بما يورث نظامه البديع حقيقة الحكمة والتدبير الدقيق للخالق، وبما يرسمه الهدي النبوي من منهج وطريق يسير عليه العاقل الواعي لفهم حقائق التوحيد والعقائد الحقة بالأدلة العقلية، كما أن نهج الاستقامة والورع عن محارم الله تعالى يفرضه ويدعو له العقل الحصيف، فكيف لعاقل أن يعرض نفسه لعقوبة عظيم من البشر وقادر على معاقبته إن أساء له فضلا عن معصية جبار الجبابرة، فيتعرض للعقوبات الإلهية في يوم نصب الموازين والمحاسبة؟!
لقد كان مكث رسول الله ﷺ في غار حراء استمدادا من الباري وتزودا روحيا ينعش نفسه بالأنس والقوة، والثبات في تبليغ الرسالة لما سيواجهه من تكذيب وعناد واستكبار وعدوان لا يتوقف من صناديد قريش وكبرائهم ومن يضلونهم، وفي الغار كان بدء نزول القرآن الكريم عليه ﷺ حيث بدأ نور الحقيقة والمعرفة يتنزل على الناس ليخرجهم من ظلمات الجهل والشرك والرذيلة الأخلاقية، فلم يتوان الرسول الأكرم ﷺ في هداية الناس وإرشادهم ودعوتهم إلى تحريك دفائن العقول والتفكر في نظام الكون الوسيع وما يحتويه من عجائب خلقه تعالى.
وعندما يتحدث الرسول الأكرم ﷺ ويفصح عن فحوى ومضامين رسالته السماوية يلخصها ببضع كلمات معبرة، «لأتمم مكارم الأخلاق» فرسالته تلخصت في مفهوم مكارم ومعالي الأخلاق الحميدة والسعي إلى اكتسابها والاتصاف بها، بل والتشريعات العبادية الإسلامية ما هي إلا مجموعة مضامين أخلاقية عالية يكتسبها الإنسان من خلال مداومته على هذه الدورات التدريبية، فالصلاة والصوم والصدقة تربي النفس على التخلص من الآفات والرذائل كشح النفس والتكبر والافتتان بالدنيا، وتكسب المرء مفاهيم التوحيد والاستقامة والخشية من الله تعالى وتنزيه النفس عن الشهوات والأهواء المتفلتة، فالعبادات مدرسة تربوية تنشيء على الآداب والقيم الأخلاقية الرصينة.
الرسالة المحمدية ليست مجرد تعاليم لا وقع لها في حياة الناس، بل هي منهج حياة شاملة لكل أبعاد وجوانب الشخصية الإنسانية، فتنظم علاقته بالله تعالى بما يورثه الورع عن محارم الله تعالى والخشية منه عز وجل، وينظم علاقات الناس في محيطهم الأسري والمجتمعي حيث تقوم على الاحترام والتعاون والتكافل، وهذه ما يعبر عنه القرآن الكريم بالحياة الطيبة، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ….﴾ [النحل الآية 97]، أي اتباع التعاليم والإرشادات للدين الإسلامي الحنيف يفيض بالراحة النفسية والطمأنينة وينقي نفوسهم من شوائب الانحراف والضلال ويهذب مشاعرهم من الكراهيات والأحقاد، فالحياة السعيدة تتمثل بدعوة الرسول الأكرم ﷺ إلى الترفع عن الخصومات والمشاحنات والقطيعة، وذلك من خلال التسامح والصفح عن المسيء؛ لئلا تتحول العلاقات الاجتماعية إلى بؤرة التلاسن والتراشق الكلامي والتوتر والافتتان.