آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

أحسن الله عزاكم

إبراهيم الرمضان *

المعتاد لدينا هنا - وخصوصًا بزمننا الحالي مع توفر المستشفيات والخدمات الصحية - عندما يحتضر الإنسان ويوشك على الموت، أن يقضي نحبه بالمستشفى، ويعلم ذوي المتوفى بالخبر إما باتصال من المستشفى ينبئهم بالخبر الأليم، أو عن طريق المصادفة بزيارة روتينية معتادة من أحد ذويه ليفاجئوا بوفاته قبل يوم أو يومين دون أن يكلفوا أنفسهم بالاتصال عليهم، هذا إذا لم يواجهوا موظفًا أحمقًا عديم الإحساس والمراس ليطلب منهم التوقيع على استلام «الجثة!» قبل أن يعلموا بأنه قد توفي أصلًا!! «ها أنتوا أهله؟ تعال وقع على استلام الجثة، وينكم؟ من أمس ننتظركم تجون تاخذونه، حطيناه بالثلاجة»!! ليتعرضا بسبب ذلك إلى حالتي تشنج وإغماء نتيجة الصدمة المروعة!!

رغم صعوبة الأمر وفداحتها على ذويه، سيبقى من أهون الأمور كونه قد مات بالمستشفى ويعتبر موتًا نظاميًا وقانونيًا وسيتم استخراج تصريح الدفن بسهولة، على النقيض!! إذا مات الرجل أو المرأة فجأةً بالمنزل، ربما نوبة قلبية، أو سكتة، أو ذبحة، أو أيًا كان، سيتعقد الموضوع لأنه لم يمت بشكل نظامي!! لماذا لم يمت بالمستشفى؟! وسيكون الوضع أصعب إذا مضى على موته أكثر من يوم حتى بردت جثته بعد تكسير باب غرفته من قبل الجهات المختصة، ليدخل ذويه في دوامة التحقيقات والإجراءات المعقدة ليدفعوا ثمن ظنهم أن المرحوم كان نائمًا ولا يرغبون إزعاجه.

ما ذكرناه أعلاه هو المعتاد الآن، بينما الوضع قد يكون مختلفًا في دول شرق آسيا مثلًا، حيث يكثر الاحتضار في المنازل بدل المستشفيات ويكون وسط ذويه، يبدو الحالة مألوفة لديهم لدرجة أنهم يتصلون بالسكايب أو ماسنجر فيسبوك على عاملة منزلية تعمل بالسعودية ليقوموا ببث حدث وفاة أمها على الهواء مباشرة حتى تشاهد بأم عينها كيف تنازع الموت، يستعرضون الحالة كأنه حدث لا يفوت!! لكم أن تتخيلوا مبتعث بالخارج يرد إليه اتصال يقول له: «افتح السكايب بسرعة، شوف أمك شلون تموت لا يفوتك، فرصة مرة بالعمر تشوفها مب تتكرر»!!!

الله يطيل عمر الجميع ويحسن خاتمتهم، ولكننا بالتأكيد غير معتادين على حالة كهذه، لترى العاملة المنزلية مراحل موت أمها وترى تمدد قدميها بعد أن كان ساقيها مرفوعة كجالسة القرفصاء، وتجد البث يقترب أكثر من وجه أمها لتراها كيف يجحظ عينيها لتسمع العويل حولها تتعالى، لتصرخ العاملة أخيراً في غرفتها حتى يسمعها كل من في البيت وترغب بشدة بحجز أقرب تذكرة إلى مانيلا، وذلك حتى تكمل بقية طقوس ما شاهدته بالبث المباشر، تذهب لتجلس أمام جثة والدتها التي سيتم وضع جثمانها في كنيسة قريتها لمدة 5 أيام ليشاهدها الجميع داخل التابوت المكشوف فوق طاولة مغطاة بالحرير لتربط فيها شريطًا مكتوبًا عليها اسمها ليُدفن معها في مثواها الأخير.

الوضع عندنا بالنقيض غالبًا!! الإنسان يموت بكرامته بالمستشفى، ليصبح البعض منهم «هدانا الله وإياهم» منشغلًا في كيفية التحضير للعزاء والبحث عن ألذ المطابخ لتقديمها إلى المعزين، كأنها مناسبة زواج مو حزن!!! وقد يتنازعون بشأن مكان إقامة مراسيم العزاء!! طرف يفضل إقامتها بالأحساء حيث يسكن المتوفي نفسه وأغلب أقاربه وأصدقائه فيه ويقوم بنشر إعلان بأن الدفن والعزاء في الأحساء، وطرف يعارض ويريد إقامتها بالدمام حيث يعملون ويسكنون وهناك يسكن الشطر الآخر من أقاربهم ليعيدوا نشر الإعلان بأن الدفن والعزاء في الدمام مع توفير سيارة جيب وأكياس من الثلج حتى لا يتحلل جثة أبيهم، ليحتج أنصار العزاء بالأحساء على الإعلان الجديد لأنهم قد دفعوا العربون للمطبخ الذي سيعد لهم أفضل المأكولات وأطيبها ليقوموا بالتأكيد على الإعلان الأول بأن الدفن والعزاء في الأحساء، وبالمقابل أنصار عزاء الدمام يقوموا بالرد أن طعام العزاء في الدمام أطيب وألذ وتم دفع العربون لهم أيضًا ليعيدوا بدورهم التأكيد بأن الدفن والعزاء في الدمام!!! بين هذا وذاك، يحتار الذين وصلوا إلى أبقيق هل يواصلون طريقهم إلى الأحساء أم يعودوا قافلين إلى الدمام؟؟!!! وكذلك الذين انطلقوا من الأحساء بناءً على الإعلان الثاني هل يواصلون طريقهم إلى الدمام أم يعودوا قافلين إلى الأحساء؟؟!! كل هذا الصراع وجثة والدهم لا تزال ملقاة داخل ثلاجة بالمستشفى!!

ليأتي كبير العائلة في النهاية ليعلن حلًا وسطًا بدفن الجثمان في مدينة أبقيق وإنشاء مخيم كبير يكفي الجميع داخل المدينة يضعون فيه الطعام الذي تم طبخه في الأحساء والدمام ونقلها كلها إلى أبقيق، وتخصيص قاعتين طعام للرجال والنساء بحيث تم تخصيص طعام الأحساء للرجال وطعام الدمام للنساء، لتشب أزمة جديدة لأن رجال الدمام يريدون طعام الدمام ورجال الأحساء يريدون طعام الأحساء والوضع نفسه لدى النساء، ليأتي كبير العائلة ليحل هذه الأزمة مجددًا بتخصيص قاعتين طعام للرجال وقاعتين طعام للنساء بحيث يتم تعليق لوحة توضح مصدر هذا الطعام «طعام الأحساء - طعام الدمام»!!

في النهاية، ماذا سيستفيد «المغفور له» من كل هذا؟! هل سيتم تنزيل جزء من هذا الطعام اللذيذ «بنوعيها من الأحساء والدمام» إلى حيث يرقد بسلام؟ أم أن الأولى والأصح هو العمل الصالح الذي ينتفع به؟ أو لم يكن من الأجدى بهم العناية بوالدهم والاهتمام به في حياته بدلًا من كل هذا الترفيع بعد رحيله عنهم؟!

نسأل الله حسن الخاتمة وأصلح ذرارينا ليكونوا بارين بوالديهم بحياتهم وبعد مماتهم.