آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 6:06 م

المرجعية الدينية في الخليج... فكرة تجاوزتها الدولة المدنية!

حسن المصطفى * صحيفة النهار اللبنانية

تتمّ مناقشة فكرة وجود مرجعية دينية محلية في دول الخليج العربي، في كثير من الأحيان بطريقة كلاسيكية، لا تأخذ في الحسبان التغيّرات المفصلية السريعة التي تمرّ فيها دول المنطقة، وتحديداً المملكة العربية السعودية، وهي تحوّلات ليست على مستوى الاقتصاد والتنمية والحرّيات الاجتماعية وحسب، بل تبدّلات مفاهيمية، تروم تعزيز ”مدنية الدولة“ وبناء وعي مجتمعي واسع يتجاوز التقسيمات المناطقية والطائفية والقبلية، ويعلي من قيم المواطنة، وسيادة القانون، وفصل الاشتباك بين الديني والسياسي، بمعنى الحفاظ على المجال العام بوصفه فضاءً مدنياً صرفاً، دون أن يعني ذلك أخذ موقف سلبي من ”الدين“، وإنما عدم استخدام الخطاب الديني كأداة للتحريض على العنف والكراهية من قِبل جماعات ”الإسلام السياسي“ أو التيارات المذهبية المتشدّدة!

من هنا، يمكن النظر لفكرة وجود ”مرجعية دينية محلية“ للمواطنين الشيعة في الخليج العربي، بوصفها فكرة من زمنٍ مضى، أي تلك الحقبة التي كان فيها المتشددون الدينيون أكثر تأثيراً وحضوراً في المجتمعات عبر خطابات المذهبية التي تفرز المجتمع وتصنّفه وفق مواقف طائفية!

لا أحد يمكنه الجزم بـ ”موت الطائفية“، لأنّ خطابها ظلّ لسنوات طويلة مؤثراً لدى المتشدّدين من مختلف المذاهب، ولذا مواجهتها تحتاج لابتكار أساليب علمية ومدنية، تعزز من حضور التفكير النقدي؛ ولذا فإنّ استحضار ”المرجعية الدينية المحلية“ لن يكون أداة فاعلة في سياق التغيّرات الكبرى التي تعيشها السعودية، بل سيمنح سلطة رمزية واجتماعية وحتى مادية لرجال الدين ويجعلهم أكثر قوةً، في الوقت الذي يفترض أن يكون مجالهم محصوراً ضمن نطاقٍ محددٍ، لا يتجاوز الفتوى في المسائل الفردية - العبادية، وليس التصدّي للإفتاء في القضايا العامة الكبرى، التي هي من اختصاص كيان الدولة ومؤسساتها المعنية.

مجلة ”المجلة“ نشرت مقالاً بعنوان ”المرجعية الشيعية في دول الخليج“، بتاريخ 23 شباط «فبراير» الجاري، كتبه عبد الله فيصل آل ربح، رأى فيه أنّه ”بالنظر إلى التغيّرات السياسية والاجتماعية السريعة في دول مجلس التعاون الخليجي، فقد لا يمرّ وقت طويل حتى نرى أحد المؤهلين للمرجعية يعلن تصدّيه لهذا الموقع“.

”التغيّرات السياسية والاجتماعية السريعة“ التي أشار إليها آل ربح، واعتقد أنّها قد تؤدي إلى نشوء ”مرجعية محلية“، هي في الواقع تسير عكس ذلك، لأنّ هذه التغيّرات دفعت نحو تعزيز قيمة المواطنة، والحدّ من توغل رجال الدين في الشأن العام، كما أنّ كثيراً من المواطنين الآن لا يقدّمون أنفسهم بصفتهم المذهبية الضيّقة، بل بوصفهم مواطنين فاعلين في الدول التي ينتمون لها.

إنّ الهوية الفرعية اليوم، تتراجع شيئاً فشيئاً لصالح الهوية الوطنية الجامعة، وهو أمر لاحظه الكاتب البحريني عادل مرزوق، الذي كتب في تغريدة له نشرها عبر حسابه في منصّة ”إكس“: ”في صغري، عايشت شيعة السعودية وهم متقوقعون في خصوصيتهم المذهبية، كانت هويتهم الوطنية في المرتبة الثانية بعد كونهم شيعة. عاصرتهم اليوم، أصبحو سعوديين قبل أن يكونوا شيعة، يلبسون عقال الملك عبدالعزيز، يحتفلون بفرحة نابعة من قلوبهم“.

هذه التبدّلات تدفع نحو أسئلة مفصلية ملحّة، لعلّ أبرزها: هل المرجعية الدينية حاجة ملحّة للمواطنين في الخليج العربي، أم أنّ الجيل الجديد تجاوز هذه الفكرة؟ ماذا عن قدرة هذه المرجعيات على الانسجام مع عملية الإصلاح والتنمية؟ وهل تكريس مرجعية دينية محلية، ينسجم مع العمل الجاد نحو مدنية الدولة وتحرير العقل؟!

شخصياً أعتقد أنّ الإجابة بالنفي، دون أن يعني ذلك أن لا يكون هنالك دورٌ للفقهاء المحليين، وإنما ضمن نطاقٍ محددٍ جداً لا يمنحهم سلطة، أو يجعلهم في مكانة أعلى، لأنّ الدولة الوطنية الحديثة لا تتعدّد فيها السلطات بين سياسية ودينية، بل السلطة فيها هي لـ ”كيان الدولة“ ومؤسساتها، وذلك وفق القانون العادل الذي يحتكم له الجميع!

هنالك نقطتان طرحهما الدكتور عبد الله فيصل آل ربح في مقالته بمجلة ”المجلة“ ربما من الجدير مناقشتهما.

الأولى، إشارته إلى أنّ ”خلافة السيستاني من قِبل مرجع من مواطني دول الخليج لن تكون مجرد صعود مرجعية فرد، وإنما ستكون حدثاً سياسياً سيؤثر على احتمالية قدرة إيران على التأثير على شيعة هذه الدول، وهذا أمر جيو - سياسي يحتاج صنّاع القرار السياسي إلى الاستعداد للتعامل معه في المرحلة المقبلة“.

برأيي، إنّ تأثير الخطاب الثوري الإيراني على شريحة من المواطنين في الخليج العربي تراجع بشكلٍ كبير، والسبب يعود للتغيّرات الواسعة التي كانت رافعتها ”رؤية المملكة 2030“ من جهة، وترسيخ مبدأ ”المواطنة“ من جهة ثانية، فضلاً عن ازدياد الوعي بأنّ ”الجمهورية الإسلامية الإيرانية“ هي دولة لها مصالحها الذاتية التي تستخدم الخطاب الديني لأهداف سياسية، وهو الاستخدام الذي أثّر بشكل سلبي في عدد من الدول الخليجية وقاد لعمليات عنف وفوضى، والمواطنون في الخليج اليوم منشغلون بالتنمية والتطوير ولا يودون العودة إلى مربع الإرهاب والطائفية، وبالتالي فالحصانة من تأثير خطابات ”الحرس الثوري“ تتمّ عبر الوعي المدني والقانون وليس المرجعية الدينية، وإن كان لبعض ”المرجعيات المعتدلة“ دور إرشادي في هذا الصدد!

النقطة الثانية التي طرحها آل ربح، هي قوله ”في حال نهوض حوزة شيعية محلية ووصولها إلى مستوى متقدّم من المكانة والتأثير في الوسط الشيعي، فإنّ الدولة الحاضنة «السعودية أو البحرين» ستكون متمكنة من ممارسة التأثير في الوسط الشيعي ليس فقط داخل أراضيها، بل ربما حتى في الدول ذات الأغلبية الشيعية «إيران والعراق». وسيتمثل الاستثمار السياسي في إرسال دعاة شيعة سعوديين أو بحرينيين إلى دول فيها عدد كبير من الشيعة خارج معقل الشيعة التقليدي، مثل أذربيجان، والهند، وباكستان، وأفغانستان. مثل هذه الخطوة ستمثل مرحلة جديدة من التنافس السعودي - الإيراني، حيث ستنافس السعوديةُ إيران في المشهد الشيعي العالمي، مع الاحتفاظ بمكانتها الريادية في جزء كبير من المجتمعات السنّية“.

هذا المقترح لا يتواكب مع السياسة الخارجية السعودية، القائمة على إبعاد الدين والطائفية عن العمل السياسي، لأنّ المملكة تدركُ أنّ استخدام ”الخطاب المذهبي“ يجرُّ إلى تعميم الطائفية ويمنح تيارات ”الإسلام السياسي“ حضوراً أكبر، ما سيعظمُ خطر هذه التيارات على المجتمع والدول.

السعودية تقدّمُ ذاتها بوصفها دولة منشغلة بالتنمية والتطوير والابتكار، ذات تأثير دولي وإقليمي عام، وليست دولة ”سنّية“ تنافس دولة ”شيعية“. بل أبعد من ذلك، الرياض اليوم وكما قال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تعمل من أجل أن يكون الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة!

من هنا، لا يمكن للسعودية أن تتحوّل إلى دولة ”تبشيرية“ تروّج للطوائف والمذاهب، بل هي اليوم وبقدرِ ما تعتز بكونها ”قبلة المسلمين“، هي في ذات الوقت تجذب السياح والمستثمرين والباحثين على التطوير من مختلف أنحاء العالم، محتضنة ملايين المقيمين والزوار من جنسيات وأديان وثقافات عدة.

ختاماً، إنّ مفهوم ”المرجعية الدينية“ بشكلها التقليدي الحالي، أو وفق النمطِ الذي أشار له مقال دكتور آل ربح، تتعارض مع ”الإنسان المدني“ في العصر الحديث، إضافة لكونها تعطي رجال الدين سلطة غير مستحقة، وتخلق سلطة متجاوزة للحدود الوطنية؛ ومن هنا، فإنّ العمل على نزع القداسة وتحرير العقل، يتطلّب التقليل من نفوذ رجال الدين، وليس منحهم مزيداً من القوة، دون أن يعني ذلك عدم احترامهم أو منعهم من الفتوى في المسائل العبادية الشخصية، طالما كانت لديهم المؤهلات الدينية والأخلاقية لذلك، وهم ملتزمون بالقانون.