الباحث التاريخي الأكاديمي الفقيد الدكتور محمد القريني
دراسة التاريخ على منهج علمي أكاديمي له أصوله وأهدافه ينتج عنه تحليل واستنتاج أكثر وضوحًا بالبراهين والشواهد والقرائن، يؤدي إلى معرفة التاريخ الحقيقي بدرجة كبيرة، ودراسة التاريخ بمنهج أكاديمي معتمد على الاستقراء والقواعد العلمية يقلل التضليل ويزيل المؤثرات الوجدانية، ويقدم تاريخ أقرب إلى حقيقته الواقعة وجذور مخرجاته.
إن القراءة في التاريخ المكتوب على منهج علمي متجرد يشجع القارئ على التأمل في أحداثه والربط بين أجزائه المختلفة، واستخراج النتائج والعبر والدروس حين تحلل وقائعه وتتأمل نتائجه.
إن دراسة علم التاريخ تؤدي إلى اكتشاف الأسباب لنهوض وسقوط الأمم وقوانين استدامتها وازدهارها.
هذا منهج المرحوم الدكتور محمد موسى القريني «1955 م - 2024 م» المختص أكاديميًا والحاصل على درجة الدكتوراه، هو من القلائل الذين درسوا التاريخ أكاديميًا، وقدم دراسات محكمة فيه، فقد ألف كتبًا وبحوثًا، وشارك في مؤتمرات وندوات وطنية وإقليمية ودولية، واختص في حقبة زمنية بالدراسة والتحليل والاستنتاج وهي فترة العثمانيين بالأحساء.
يذكر الباحث سلمان الحجي في كتابه «الدكتور محمد القريني من عبق الذكريات» على لسان المرحوم الباحث المتميز عبد الخالق الجنبي ”الدكتور القريني له على الأحسائيين فضل كبير وهو يستحق كل التقدير والاحترام“ ويكمل أقواله بأنه حين استعان بالدكتور التركي الأصل والباحث سهيل صابان في التاريخ العثماني بمكتبة الملك فهد الوطنية قال ”أليست القطيف بالقرب من الأحساء؟ فأجبته بنعم، فسألني: هل تعرف الدكتور القريني؟ وأكمل بإجابة ما فحواه“ أنا أستغرب منك كيف تترك النبع وتأخذ من السواقي" دلالة على موسوعية الدكتور المرحوم القريني في اللغة التركية والتاريخ العثماني.
يقول مشرفه على شهادة الدكتوراه الدكتور عبد اللطيف بن ناصر الحميدان في بحثه الذي طبع كتابًا ”ما أن تم نشر رسالته في كتاب حتى تلقفها المهتمون بتاريخ الجزيرة العربية“ ودليل أهميتها أنها نفدت من السوق وألح عليه بعض المختصين والقراء لإعادة طباعتها.
يقول أستاذ التاريخ الحديث وعميد كلية العلوم الإنسانية بجامعة الفاتح البروفسور زكريا كورشون عن المرحوم الدكتور القريني ”درس اللغة التركية القديمة والحديثة قبل بداية كتابته، ويكمل البروفسور زار كل مكان يمكن أن يجد فيه مصادرًا متعلقًا بمتصرفية الأحساء“ كما يقول البروفسور كورشون ”يتمتع مؤلفنا بخصلتي الصبر والدقة الشديدتين“
ويقول البروفسور زكريا كورشون ”قرأت هذا الكتاب بمتعة شديدة واستفدت منه غاية الاستفادة“
ويقصد به كتاب «الإدارة العثمانية في متصرفية الأحساء» وهو رسالة الدكتوراه طبعت ككتاب على نفقة دارة الملك عبد العزيز لأهمية هذه الدراسة.
وفي هذا الكتاب يوصِّف الدكتور القريني الوثائق العثمانية ويقسمها إلى «إرادة داخلية وإرادة عسكرية وإرادة مجلس خصوص» ويفرق بينها وبين الوثائق الإنجليزية التي امتازت بحسن التنظيم وسهولة الوصول، كما يصف صعوبة الحصول على الوثائق المحلية من بعض الأشخاص والأسر حتى الكتب السنوية التي تصدرها الدولة العثمانية بما يعرف ”السالنامات“، اعتمد أيضًا على المذكرات الشخصية مثل مذكرات محمد رؤوف الشيخلي، واهتم بها لأن بعض محتوياتها تتحدث عن تاريخ الأحساء الذي يدل على جهد كبير ومتميز اجتهد فيه الباحث الدكتور القريني للحصول على أية معلومة تفيده في دراسته.
سافر إلى مدينتي بغداد والبصرة بالعراق، وتنقل كذلك بين مدن تركية عدة مرات من أجل دراسته للدكتوراه جمعًا لأية معلومة يحصل عليها من وثيقة وصحيفة وكتاب.
من كتابه «الإدارة العثمانية في متصرفية الأحساء» يذكر الفقيد الدكتور القريني من ضمن تحليله عن عدم انتشار المدارس النظامية في عهد الدولة العثمانية بمتصرفية الأحساء ”أهمها أن الوضع المالي في الدولة العثمانية كان ضعيفًا، بالرغم أنها فرضت ضريبة على السكان للتعليم بنسبة نصف في المائة“، كما يوثق المؤلف بالرغم من ضآلة جهود السلطة العثمانية في نشر التعليم الحديث في الأحساء إلا أن المنطقة لم يخيم عليها الجهل والأمية فالتعليم الأهلي كان نشطًا إلى حد كبير.
مما يذكر بكتابه أيضًا في قسم العلاقة بالقوى المحلية ”إن المنطقة الممتدة ما بين الدمام وميناء العقير التي تسمى بساحل الظهران تُعد مساحة واسعة وكانت في السابق عامرة بالمزارع“.
ويورد الباحث الدكتور القريني في كتابه بقسم نظام الضرائب والرسوم أن العثمانيين قاموا بمسح شامل لأنواع الضرائب والرسوم.. إضافة لحصرهم للموارد المالية واستعانوا بذوي الخبرة والمعرفة من سكان البلاد، ويذكر أيضًا أن "ضريبة الأعشار المتحصلة من الأحساء تفوق الموارد الأخرى.
في قسم النقود المتداولة في الأحساء كتب الدكتور في كتابه ”بما أن لواء الأحساء يتميز بالنشاط الاقتصادي كانت لها خصوصية في مواجهة الأسواق الأخرى مثل السوق الهندي ووجود أعداد غير قليلة من سكان تلك المناطق يمارسون تجارتهم على أرضها حتى تنوعت العملات المختلفة، ولكن كان لليرة العثمانية أعلى قيمة نقدية، وكانت من العملات التي تستخدم ريال تريزا الفرنسي أو ما يسمى دولار ماري تريزا“.
كما يذكر الدكتور القريني التعقيدات في الأجهزة الإدارية بالحكم العثماني ”طبيعة تلك الأجهزة من تعقيد في علاقتها مع السلطة المركزية من جهة وعلاقة رموز تلك الأجهزة مع بعضهم بعضًا“.
ألف الفقيد الدكتور محمد القريني كتبًا وأبحاثًا مثل «الإدارة العثمانية في متصرفية الأحساء»، و«الحياة الثقافية في الأحساء عند الدولة الجبرية»، و«سواحل نجد ”الأحساء“ في الأرشيف العثماني».
كما يذكر سلمان الحجي في كتابه السابق الذكر على لسان شخصيته القريني أنه حصل على عدة جوائز وشهادات تقديرية منها: جائزة الملك سلمان التشجيعية لبحوث ودراسات تاريخ الجزيرة العربية، ووشاح السلطان بايزيد من الجمعية التاريخية التركية، وشهادة تقديرية من جمعية باحثي أفريقيا والشرق الأوسط، وعضويته متنوعة وطنية وخليجية ودولية مثل عضويته في الجمعية التاريخية السعودية وعضويته في الجمعية الخليجية للتاريخ وجمعية المؤرخين العرب وعضويته بالجمعية التاريخية التركية،
رحم الله الفقيد الباحث الدكتور أبو مصطفى.