إلى أين المهرب؟!
لا نتصور حالة الهرب وتملك الإنسان أحاسيس الخوف على نفسه وسلامته إلا من خلال استشعار وجود الخطر المحدق والقادر على إلحاق الضرر به على نحو الجزم واليقين أو الظن القوي العقلائي، ولا يتجه في مهربه إلا إلى مكان آمن لا يمكن لعدوه أو الخطر المداهم أن يصيبه، فما معنى هروب الإنسان إلى الله تعالى بعد أن استشعر خطرا ما أيقن بعطبه وهلاكه منه إن لم ينج بنفسه؟
إنها يقظة روحية وإيمانية أنتجتها النفس اللوامة والضمير الذي لفظ حياة الانغماس في الشهوات والاستجابات السريعة لتزيين الشيطان وخطواته، فما عادت حالة الغفلة مسيطرة عليه كما كان في السابق فيمارس ما تشتهيه نفسه الأمارة بالسوء، مما يوقعه تحت طائلة المسئولية والمحاسبة يوم توضع موازين الأعمال، وأما من يحيا حياة الدعة والملذات الدنيوية وتلبية غرائزه عن طريق الحرام فلن يشعر قطعا بخطر الشيطان ومقدار الضرر الذي يلحقه به، فهذا القرآن الكريم يؤكد على حقيقة مهمة تنير درب الإنسان في هذه الحياة، ألا وهي عدواة الشيطان الرجيم له وسعيه الحثيث بكل ما أوتي من مكر وخداع لإيقاعه في شرك الخطايا ومقارفة المحرمات الشرعية، ومثل هذا العدو الشرس لا يجابه بالغفلة والتهور في الأفعال والميل إلى الحياة المادية الصرفة وتضييع الأوقات في مجالس اللهو والغيبة، بل ينبغي الاستعداد والتجهيز للمواجهة مع العدو الشيطاني بكل وسائل القوة الروحية والإيمانية والسلوكية والنظر في عواقب الأمور في أحاديثه وتصرفاته، وحينئذ مع تكون اليقظة الروحية والضمير الحي وتبلور الحذر من الوقوع في الأخطاء والمخالفات كفكر واع ورشيد تسير المواجهة للعدو الشيطاني حينئذ في مسارها الصحيح، ولن يصل المرء إلى مرحلة الطمأنينة والشعور بالسلامة من مخالب العدو الشيطاني الذي يحاول غرز أنيابه في قلبه، إلا من خلال اللجوء إلى ساحة الرحمة الإلهية والوقوف بين يدي عظمته تعالى في محراب المناجاة والطاعة، فكلما اقتربت منه الوساوس والتسويلات الشيطانية المزينة للشهوات والمنكرات، أبصرت نفسه الواعية حينئذ عظم الخطر وعواقب المخالفة لجأت وآوت به إلى كهف الحصانة والخشية من الله تعالى، فالنفس الواعية والبصيرة الواضحة تكشف له الحقائق وإن تدارت بوجه آخر محبب للنفس ومحرك لأهوائها بسبب التزيين والتزييف الشيطاني، فالمعصية في وجهها الظاهري إشباع لغريزة متفلتة وشهوة لا يقوى على الامتناع عن تناولها بسبب ضعف وازعه الإيماني، ولكنها في الوجه الباطني والحقيقي كرة نار يلتهمها إلى جوفه فتحرقه وتذيب بدنه كما يظهر له ذلك في يوم الحساب، حيث يرى نتائج وجزاء ما اقترفت يداه وأجرمت في حق نفسه عندما عرضها للعقوبات الإلهية.
الهرب إلى الله تعالى يتحقق من خلال تهذيب النفس ومجاهدة الأهواء والشهوات المتفلتة والنظر في عواقب الأمور قبل الإقدام على أي كلمة أو تصرف صادر منه، وهذا السعي يتطلب منه بذل الجهود الحثيثة والسعي من أجل الوصول إلى دائرة النجاة والطمأنينة والخلاص.
وهل الشيطان الرجيم له القدرة الفائقة والسلطنة التامة على البشر يغويهم ويضلهم ويسقطهم في هاوية الانحراف، أم هناك عوامل مساندة تخلص الإنسان من كيده؟!
كيد الشيطان الرجيم وخطواته ضعيفة وعاجزة عن جر الإنسان إلى الغواية إذا ما امتلك الرؤية والبصيرة بعواقب الأمور والجزاء يوم الحساب ومواجهة نتائج ما فعله في الدنيا، وتقوى إرادته وتتصلب أمام تزيين الشيطان المعصية في عينه إذا استشعر عظمة الله تعالى ومراقبته له في كل أحواله، وتلك البصيرة تساعده في الهروب إلى الله تعالى إذا ما تفطن إلى السبل والموارد التي توقعه في المعصية كمجالس الغيبة وأصدقاء السوء والنظرة المحرمة، والمشاعر السلبية تجاه الآخرين لأي سبب كان لتتحول إلى كراهية وأحقاد مستحكمة.
ورد في المناجاة الشعبانية: «فقد هربت إليك».
?