صمغ المحبة
مرت سبعون ساعة وسلمان بين جدران غرفة العناية القصوى، تلك الجدران التي صارع فيها الكثير من المرضى الموت، مخططات قلبه الضعيفة بدأت تقلق زوجته التي ترافقه، اتجهت بالقرب منه، ومسحت على يديه بحنية، وبدأت تسرد عليه الأحداث المضحكة عن أولاده، بمحاولة لرسم ملامح ابتسامة على محياه لتخفف ضغط الأفكار عنده.
كان يحادثها بطمأنينة وامتنان كونها بجانبه، حتى سمع صوت الباب، وهو يُفتح فتراقصت الفرحة بعينيه لوهلة، وتجمدت ملامحه بعدها، عندما رأى أن الطارق هو ممرضه وكأنه أصيب بخيبة أمل شديدة، ولمحت زوجته دموعا تهطل من عينيه الذابلتين وهو سارحً بنظره نحو الباب وكأنه ينتظر أحداً ما.
مرت أربعة عشر عاماً منذ نشب شجار تافه بين سلمان وأهله، فقرر الجميع مخاصمته، رغم أنه كان المظلوم لا الظالم في هذا الشجار، ومع ذلك ظل يعيش بمثل المنزل معهم، وحاول سلمان كثيراً إعادة الود، لكنه لم يلق إلا سوء الرد، لم يتوقف عن إلقاء التحية يومياً على أهله، ولم يتوقف أهله بترديد الإهانات إليه، كانت يده معطاءة في تقديم المساعدات والسند في كل موقف أسري لهم، وكانوا بارعين في فنون أذيته وجرحه.
هز صوت سيارة الإسعاف الذي حمل سلمان من المنزل بيوت الجيران، ولم يهز قلب أهله، يبدو أن أزمة الكبرياء ستطول لديهم، لكن سلمان مازال يحمل الطيبة اتجاههم، ولم يتوقف أمله أن يدق الباب محملاً بشرى حضور أقاربه.
في ظهر اليوم التالي دخلت أم سلمان مهرولة للمستشفى تسبق والده وأخواته، هذه المرة هم يسابقون ملك الموت الذي أعلن قرب حضوره باتصال من المستشفى للحضور لتوديع سلمان كونه يحتضر بعد أن بدأت مؤشرات قلبه أقرب للتوقف، أغرقت وجوههم دموعاً عندما شاهدوه مسجى بسكون وسلام ممد على سرير المستشفى محاط كطفل رضيع بقماش أبيض لا يظهر منه إلا ابتسامته، لقد خسروا السباق، وسيذهب سلمان لبيته الجديد، وسيخلو بيتهم من صوت سلامه للأبد، مات ولم يتركوا له بختام حياته بعضا من كلماتهم أو نظراتهم الحنونة، ورحل هو ولم ينسهم حتى بغيابه، وترك في وصيته جزءا من ميراثه إلى كل واحد من أهله.
هل دموعهم شهادة محبتهم له؟ وهل صرخاتهم ستغير غصة النهايات؟ وهل وفاة والدته بعد سنة من وفاته ستعيد الزمن؟ هل أصابه والده باكتئاب والشلل سيغير الأحداث؟ هل تأنيب الضمير عند إخوته سيتوقف؟ هل الموت سينسي العتاب؟ وهل الاهتمام بأولاده يعوض فقد الأخ والأحباب؟
لو رجعنا للوراء وحل التسامح بعد أول صلح كيف كانت ستكون حياة سلمان وأهله، كم هو جميل أن نفكر بالجانب الجميل الذي كان من الممكن أن يكون بسبب التسامح، لكن للأسف لا يعود الزمن لكي نصحح الأخطاء.
هناك كثير من المواقف والاختلافات مع الآخرين من حولنا تجعلنا نصارع أنفسنا في اتخاذ مواقفنا معهم، ونعيش حربا بين عقولنا وقلوبنا لكل موقف صادم سواء كان صعباً أو تافها. وكثير للأسف ما يميل الناس اليوم للخصام لا التسامح.
لماذا ننتظر لقاء المستشفيات وحوادث المرض وتراب المقابر لنكشف مشاعرنا لمن يحطيون بنا؟ الوقت لا يسير للخلف والعمر يمضي مسرعاً والموت لا يستأذن أحدا ودموع الفقد لا تضمد الجروح بل تؤكد أثرها.
وأنا متأكد أن أغلب من يقرأ كلامي اليوم قد يحمل مشاعر عتب أو زعل أو ضيق أو خصام من أحد ما على اختلاف نوع العلاقات الاجتماعية. كوننا بشر فالاختلاف والخلاف وارد وطبيعي بين الجميع، لكن غير الطبيعي أننا نعطي الأحداث والخلافات أكبر من حجمها، فيمتد الخصام لسنوات ويبعث الخصام الكراهية والعداء.
وبدأت هذه الخلافات تبرز بالمجتمع بشكل لافت، في تجمعات الأفراح والأحزان، فكم من شخص لا يرى أهمية لمصافحتك؟ وكم من شخص يتحاشى المرور بالقرب منك؟ وكم من شخص لا يصافحك إلا إذا استشعر الحرج ممن حوله؟.
أن ترسب أطنان من المشاعر الغاضبة في جوفك يخلق عالما من القلق والتوتر والأرق، وأنت لست بحاجة للمزيد من التوتر في هذه الحياة، ويصبح الشجار كمرض له أعراض تظهر على الناس، وينقل وراثيا إلى الأبناء والأحفاد، ويصبح الخلاف من المستوى الفردي إلى مستوى أسري كامل.
دعوتي لكم اليوم أن تبدأوا بإنبات بذرتين، بذرة المحبة «والتي بدورها ستقلل الخلافات حدة ومدة» وبذره الاعتذار «التي تمثل الشجاعة للأقوياء لا الضعفاء» وستحصدون ثمارها في أولادكم والمجتمع بدأ منكم، وأن تفتحوا أذهانكم بمخيلتين وتتعمقوا بالتفكير بهم جيدا.
الأولى. الخلافات المؤلمة التي تركت ندوبا كبيرة صعبة النسيان وخسائر كبيرة، فكر في أن تترك جبرها لخالقك فهو أفضل من يجبر القلوب وهو القاضي العادل وتعامل مع من آذاك بأخلاق أفضل من أخلاقه، لا يطلب منك محبته وإعادة الود معه كالسابق، لكن يأُمل منك تقديم احترامك وحسن سلوكك معه؛ لأن «الحب خيار ولكن الاحترام أدب» ولنا بالرسول أفضل قدوة، فرغم ما عاناه من أعدائه إلى حد محاولة قتله، إلا أنه لم يتوقف عن الدعاء لهم بالخير عند ربه. فحاول أن تصنع اللطف حتى لو كان «لطفا صناعيا» أفضل بكثير من إظهار طاقة الحقد والغضب والاستياء.
الثانية. الخلافات البسيطة التي تحدث بلحظات الغضب، والتي تخلق خلافات بسيطة لنجعل قلوبنا سمحة، ذات نية طيبة تستبق العذر قبل العتب، وتحمل للآخرين سبعين محملاً من الخير، وأن لا نترك هذه الفوهات الصغيرة تكبر بسبب كبريائنا وخجل الاعتذار، الخلافات من أهم وسائل تطور الإنسان فتجاوزها بشكل صحيح يزيد الود، ويعمق الإنسانية ويزيد التسامح، ويعلم دروسا تبني تفكيرا راقيا ومهذبا، وتعكس أخلاق الدين وحسن التربية، لذلك لنجعل من كل خلاف وشجار يمر في حياتنا. خطوة للتطور والتعلم. المعادلة سهلة سامح إذا اعُتذر منك وكن ذا جرأة بالاعتذار إذا أخطأت، وبادر بالإصلاح وكن نموذج تحرج من أمامك بطيبة قلبك الصادق.
إن أكثر ما يواجهنا هي مشاعر الاحتقان التي تظهر بملامحنا كأنها نار تشتعل عند لقاء من نختلف معه والتفكير في الدفاع عن النفس وتبرير موقفنا، وهذا ما يعيق التسامح والحل بسيط، لكن يحتاج إلى مصداقية ورغبة بالتغيير ومصارحة جادة تحمل الود لا الكبرياء. والبناء وليس الهدم والتغاضي لا اللوم.
إن أول أرباح هذه المصارحة تكون بإزاحة جزء كبير من ثقل الجفاء والغضب، وسيخف تدريجيا من داخلك، فمن كان يشعل الغضب فيك عند رؤيته بالمرة الأولى ستراه بشكل مختلف في المرة الثانية وبشعور أخف حدة وبراحة أكثر ألفة، وسيزيد الود مع الأيام، ويزيل الكراهية، وهذا الإحساس سيشعر به الطرف الثاني أيضا، وسيبادلك نفس الشعور، لأن المشوار الطويل بالعشرة والألفة العميقة والصداقات لا تمحيها سوء الخلافات البسيطة ويغلبها الوداد.
في السابق كان الأب يجمع أولاده على سفرة واحدة مهما اشتد خلافهم، ويطليهم بصمغ المحبة هذا الصمغ لا يرى، لكنه يطلى بكلمات النصح والإرشاد ليبقوا يداً واحدة يشد بعضهم بعضا بالسراء والضراء.
وكانت الأم رغم كثرة الأولاد والمسؤوليات مهما قست على أولادها تستخدم صمغ المحبة لتعيد الأمور للصواب بطبخة لذيذة أو هدية بسيطة أو احتضان.
وكان الإخوة يتشاجرون ساعة ويتصافحون بنفس الساعة، ويعيدون هذا المشهد باستمرار.
وكان الطالب يحترم المدرس مهما شد عليه بالعقاب، والجار يحترم جاره حتى لو كان من أعدائه؛ لأن الدين أوصى بمكارم الأخلاق.
نحن اليوم تجمعنا نفس الطاولة، لكن يجمعنا الطعام لا الود وكثير يعيشون تحت سقف بيت واحد، لكن بحياة منفصلة داخل الغرفات، وأصبحت المدارس ممتلئة بمشاجرات بين الطلاب، وأصبحت الناس لا تعرف أحوال الجيران، لو نرجع إلى أكبر مسبب لكل هذا سنرى الكراهية أول الأسباب.
نحن في شهر البهجة شهر شعبان، ونقترب من شهر الرحمة والغفران، قبل أن نخصص مبالغ لمساعدة الفقراء والمحتاجين، وقبل أن نبدأ بختمات القرآن وكفالة اليتيم لنبدأ بإصلاح القليل من أنفسنا، ونبدأ بنسيان الذكريات والمواقف المؤلمة عن طريق بناء ذكريات جديدة مكانها. ولنترك مكانا كبيرا للحب في قلوبنا فالدين هو دين الإنسانية والحب.
في النهاية، حتى لو حاولت وفشلت فأنت الرابح وهذي الشجاعة الحقيقية، وسيبقى الخاسر من يرفض الإصلاح عندها ستكون فعلا بنضج فكري واتزان في حياتك.
إن الله يرى اجتهاد كل واحد منا في رحلتنا لتغيير أنفسنا وعلو أخلاقنا والله لا ينسى أجر العاملين، السعي للإصلاح مشروع مضمون الأرباح الربانية ومكافئات الله لعباده فوق ما يتمناه بدءا من راحة البال لحد تحقيق الأمنيات.
رحل سلمان تاركاً رسالة التغيير وروح الأمل أمانة لديكم والسعيد من يخطو خطوة نحو التسامح والإصلاح... فكر وقرر وضع بجيبك دائما صمغ المحبة فهو أفضل مرمم للمشكلات.