آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

أعد حقيبته إلى الآخرة قبل الرحيل إليها.. الشيخ أبو توراة

زكريا أبو سرير

قال ربنا الكريم في كتابه المجيد: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ . [سورة الزمر: 17]

من خلال معرفتي وعشرتي الطويلة بالأخ الفاضل المرحوم الشيخ علي الصفار «أبي توراة»، أجزم بأنه اجتهد بالقدر الممكن في تطبيق هذه الآية الكريمة في كل أبعاد حياته، كما كان البعد الديني والأخلاقي هما البارزان في شخصيته، وقد رافقته هاتان السمتان طوال حياته.

ومع أن التمسك بالأخلاق والثبات عليها أمر صعب وشاق، إلا أني لم أشعر للحظة واحدة منذ أن عرفته أنه يمثل دور الأخلاق أو يتجمل بثوبه، بل بالعكس تمامًا وجدته الأخلاق متجسدة فيه وكأنها قلادة من لؤلؤ ناصعة البياض تلفه من فوقه حتى أسفل قدميه.

عرفت الشيخ أبا توراة منذ كان شابًا يافعًا بشدة حيائه الجميل وبجمال التزامه الديني ولطف أخلاقه مع الكبير والصغير؛ ما أضفى على شخصيته حالة من الهدوء النفسي الذي يسبق العاصفة والاطمئنان والسكينة والمحبة الذي ربطت بينه وبين الآخرين جسراً من المحبة والاحترام والتوقير.

الشيخ أبو توراة «رحمه الله» قد جسَّد الأخلاق والشعائر الدينية قولًا وفعلًا، فكان نبراسًا للشخصية النموذجية في القيم الأخلاقية والدينية والثقافية بل كان كثير التفكير والتفكر، وكان موجِهًا للصغير والكبير، وكان أبًا للصغير وأخًا للكبير وابنًا بارًّا للشيخ الكبير.. ذِكر الله لا يفارق لسانه ولا يفارقه، وكلمته المشهورة دومًا: ”اذكروا الله يا إخوان“ وكانت تخرج من شفتيه صادقتين خالصة لله سبحانه وتعالى، حيث إنها كانت تخرق القلوب.

كان الشيخ أبو توراة يتمتع بسمات أخلاقية وإنسانية قل نظيرها في زمن يصعب من تجد يتمسك بها وترافقه في حياته اليومية، سواء على الصعيد الاجتماعي والأسري كما علمت من بعض أقاربه المقربين له، فقد كان حريصًا محبًّا لأرحامه ملتصقًا بهم متفقدًا أحوالهم قريبًا منهم بل مزوارًا لهم؛ لا قاطع رحم لبعيد أو قريب، أضف إلى ذلك كان كثير السؤال عن أصدقائه وجيرانه ويتفقد أحوالهم عندما يلتقي بأحد منهم أو بواسطة أحد من أصدقائه.

سوف أذكر هنا بعضاً من جوانب من سماته الأخلاقية التي لمستها فيه مباشرة على سبيل المثال لا الحصر:

واحدة من تلك السمات الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية تأسيسه «جُمعة مباركة» الذي بلغ عمرها ما يزيد عن خمس عشرة سنة دون انقطاع في منزله، وهي عبارة عن جلسة صباحية ليوم الجمعة من كل أسبوع تبدأ بعد صلاة الفجر بساعة أو تزيد بقليل عندها تبدأ افتتاح الجلسة بتناول وجبة الإفطار في منزله المبارك مع مجموعة من الأصدقاء والمؤمنين بعضهم من داخل بلدته جزيرة تاروت وبعضهم الآخر من خارجها؛ حتى صنع منها شيئًا من التعارف بين المدعوين للجلسة الأسبوعية، إذ يحضر هذه الجلسة المباركة العديد من الأصدقاء مع مجموعة من النخب الثقافية فيدور في هذا التجمع المختلف الرائع حوارات ثقافية متنوعة. في بعض الأحيان يفتح الشيخ أبو توراة باب النقاش والحوار، وبعض الأحيان يبادر أحد المدعوين بطرق باب الحوار عبر سؤال أو رأي أو تحليل لحدث ما، بعدها يدور حوله النقاش والحوار بشكل منظم وهادئ، وعندها تبرز الاختلافات في الآراء ووجهات النظرة دون أي تشنج فكري أو شخصي من أي طرف ما، فكان هذا اليوم يشكل عند الأصدقاء الملتقى الأخوي والفكري والثقافي والنفسي، بل هو المتنفس لهم، بعد أسبوع من العمل والتعب النفسي والجسدي؛ فكانت هذه الجلسة تشكل محطة وقود روحي وفكري وذهني.

فجلسة يوم الجمعة المباركة عبارة عن تلبية لدعوة إفطار صباحي من صديق أو مؤمن عزيز عند كل المدعوين، كما أنها كانت عن صالون ثقافي متنوع يحضره مختلف طبقات المجتمع؛ إما بصفة محاور أو مناقش أو سائل أو مستمع للقول الحسن والطيب، فكان رحمه الله ذكيًّا في أهدافه الاجتماعية السامية ونافعًا للمجتمع وأبنائه بأداء رسالته الإنسانية والدينية والأخلاقية والثقافية.

من سماته الدينية

لا أظن أحدًا يختلف معي بأن الشيخ أبا توراة كان روحانيًّا، أي كثير التعلق بربه تعلقًا كبيرًا، حيث كان يحسب حسابًا كبيرًا لكل ما يقوله ويتلفظه، حتى في نقله لمجرد خبر عادي كان حريصًا على نقله صحيحًا، فضلًا عن حذره في نقل رواية شريفة أو رأي ديني في جانب من جوانب المسائل الشرعية، أضف إلى ذلك كان عاشقًا لتلاوة القرآن الكريم والاستماع لآياته الشريفة، والتفكر والتدبر في آياته الشريفة، وهذا لمسه معظم أصدقائه، ومن عاشره ولو لوهلة بسيطة يعرف أنه كان متعلقًا بكتاب الله سبحانه وتعالى، كما أنه كثير الصيام طوال السنة؛ لا يترك صوم يومي الاثنين والخميس، ومنذ أن عرفته كان ملتزمًا بصيام شهري رجب وشعبان المباركين ويوصلهما بصوم شهر رمضان المبارك، ويعتبر هذه الشهور الثلاثة شهور عبادة وتضرع لله سبحانه وتعالى، حتى إنه يوقف جلسة إفطار يوم «جمعة مباركة» كما يحلو له تسميتها حين حلول هلال شهر رجب الأصب، كما أنه كان مداومًا على إحياء الليل بالعبادة، وملتزمًا بأداء العمرة الرجبية في كل عام، ولم يفوِّت موسمًا واحدًا لحج بيت الله الحرام، بل كان مشجعًا للذهاب للبيت الله الحرام وزيارة المسجد النبوي الشريف والأئمة الأطهار في أي وقت تتاح الفرصة للواحد منا.

سماته الأخلاقية

شخصية الشيخ أبو توراة رحمه الله تبلورت وبرزت بحسن أخلاقه العالية مع الجميع، فكانت أخلاقه هي الرابط الأول له مع الناس. الكل لمس هذه السمة النبيلة فيه، فهي كانت علامة بارزة في شخصيته، وكان شديد المحبة للآخرين.. بعيدًا كل البعد عن الجدال غير النافع والكلام عن الآخرين ولو كان من باب المزاح. كان يتجنب ويخشى ذلك بل يعتذر لمن ذكر في غيابه ولو بكلمة لا تغضبه وتنقص من مكانته الاجتماعية؛ لكي يحفظ الصفاء الأخوي والإنساني الذي بينه وبين الآخر.. يحاول ألا تتلوث تلك العلاقة ولو بكلمة عابرة تقال بعنوان الممازحة الأخوية، وكذلك أيضًا لأجل براءة ذمته عند الله سبحانه وتعالى، فضلًا عن كرمه، إذ لا تجد يومًا إلا وقد أهدى لصديق أو حتى لغير صديق شيئًا مما أنعمه الله عليه فكان مصداقًا للحديث الشريف ”تهادوا تحابوا“.

سماته الثقافية

عُرف عن المربي الفاضل أبي توراة بالشخصية الهادئة والمتزنة والثقيلة والحذرة جدًّا من نطق أي كلمة تجرح الآخر، كما أنه كان شديد التواضع ويحاول إبراز ما يستطيع لرضا الآخرين، كذلك كان منفتحًا جدًّا مع كل أطياف المجتمع وبتنوع ثقافاتهم ومذاهبهم الدينية، ويحرص دائما على احترام آراء الآخرين سواء كان متفقًا معهم أم مختلفًا، بل كان نقده للآخر رحيمًا ومهذبًا للغاية، وحتى عند طرح رأيه أمام الآخرين يحاول لا يكون جارحًا لرأي لأحد، فعباراته تكون في غاية الأدب والاحترام والحذر، وقبل أن ينتهي من طرح رأيه كان يسبقه الاعتذار للجميع إن كان في كلامه خدشًا لمشاعر أحد الحاضرين.

كان رحمه الله يسبق الآخرين بالسلام عليهم والترحيب بهم ولا يعطي مجالًا لأحد أن يسبقه بالسلام وبالتحيات والاحتضان والسؤال عن تفقد أحواله وأحوال الأحبة بعيدهم قبل قريبهم والدعاء لهم بالخير، وكان كثير الترحم على أموات المؤمنين والمؤمنات وذكر صفاتهم الطيبة والنبيلة، وكان كثير لزيارة الأموات وقراءة ما تيسر على أرواحهم الطاهرة من كتاب الله عز وجل.

رحمك الله يا أبا توراة رحمة الأبرار، ونسأله أن يعطيك حتى ترضى ويحشرك مع أسيادك الأطهار محمد وآله الطاهرين.

والفاتحة المباركة على روحك الطاهرة.