آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

عيب طفولة

حسين السنونة *

كان يوم الأربعاء هو أجمل أيام الدراسة، فبعده الخميس والجمعة الإجازة، كما كان أثقل الأيام هو يوم السبت وبالخصوص ليلته، حيث الاستعداد للدراسة وعمل الواجبات بسرعة وبداية أيام الشقاء.

كان صباح الخميس هو لقاء بالأصدقاء، نتناول الإفطار في أي بيت من بيوت الجيران، وكان هذا الإفطار عبارة عن حليب مع خبز، وقرص بيض، وبيض بالسكر، أو بيض عيون، أو البلاليط، ونخج وعدس، أو بقايا حلوى من زواج أحد أهل الجزيرة.

كنا نتناول الإفطار ثم نهرول سويًّا إلى إحدى المزارع، أو إلى منطقة كبيرة تسمى ”الفلية“ وتحتوي على غابة من أشجار اللوز، والموز، والبطيخ، والرطب، والعنب.

واحة جميلة وعيون مياه موزعة على مزارع المزارعين البعيدة، بالنسبة لنا بوصفنا أطفالًا، كنا نتجنب الذهاب إلى بعض المزارع لقسوة أصحابها وصرامتهم وأيضًا لسرعتهم عندما يلحقون بنا عند الهروب منهم ونحن نحمل كميات من الفواكه والخضراوات.

كان أول ما نقوم به هو السباحة في تلك العيون الطبيعية الغنية بالمياه الصافية التي نشرب منها، وخاصة العيون الجديدة فقد كانت كبيرة ومتوسطة العمق. نقوم بممارسة الكثير من الألعاب وخاصة الغطس تحت الماء، أو القفز من الأعلى إلى أسفل الماء، ورش بعضنا البعض بالمياه مع الضحك والفرح، كان ثمة شعور جميل يحيط بنا حينها، شعور لا يوصف ولا نمتلك أدوات لغوية أو تعبيرية كي نترجمه، شعور يطلق عليه الآن ”المحبة، والتسامح، ونقاء الطفولة وبراءتها“.

وبعد ساعة أو ساعتين وربما ثلاث ساعات، وإذا كان الجو حارًا جدًا فقد تمتد تلك الفترة إلى أربع ساعات، نصاب بالجوع فنقوم بارتداء الملابس بعد أن نجلس قليلًا في الشمس حتى تجف قطرات المياه التي تعلق بأجسادنا، حينها قد تمر علينا طائرة عابرة فنقف على أقدامنا ونقوم بالتلويح لها بإشارة الترحيب والوداع وكأن ركابها المسافرين يروننا أو نراهم. كنت حينها طفلًا بريئًا أحلم بالسفر عبر السحاب، وأن أطوي الكرة الأرضية بجناحين عملاقين كطائر نحاسي مهيب بُعث من جوف الأساطير والماضي السحيق.

وقُبَيْل الانصراف إلى بيوتنا كنا نتفق على مغامرات البرنامج التي نعدها لليوم التالي، وأين يكون اللقاء لمواصلة تلك المغامرات واللعب والاستمتاع بالإجازة.

وكان الاتفاق أن يكون البرنامج في الغد جولة في مزارع القرية ثم الذهاب إلى البر وما أدراك ما البر، وهناك نلتقي بمن عملنا الصبر والقوة وحتى الوفاء، له عدة أسماء، سفينة الصحراء، الذي لا يعطش، سيد الصحراء، الجمل نعم الجمل.

كما اشتاق لرؤيته مع الأصدقاء، رأسه الكبير وأنفه الطويل، وتلك العيون الكبيرة المحمية برموش طويلة، وآذان صغيرة. وبالنسبة لي أفكر في تلك الرقبة الطويلة التي تمكنه من الوصول إلى النباتات التي تنتشر في أرض البر، الجمل صديق أجدادنا وآباءنا ونحن أيضا.

الجمل القوي يخطو في المناطق الصحراوية بكل قوة وكأنه يبتسم، يحمل الأثقال والأمتعة لكل المسافات، حي وميت نستفيد منه، نتاول لحومه وحليبه، ونستخدم صوفه في صناعة الملابس كما أنت كريم يا جمل، يقال إن جدي ذهب للحج على الجمل، وجدتي كان زفافها إلى بيت زوجها جدي أيضا على الجمل.

تسابق الشعراء في مدحه وحبه وذكره، وكما قال الشاعر الكبير خلف العتيبي يصف الإبل

أخذت من روحي لروحي نصايح
ثلاث يرضن النفوس الضياقي

جمع الحطب ومعلقات الذبايح
وحذف النشاما للغتر والطواقي

بقفرٍ خلا عشبه بالأزهار فايح
غصن الخزاما له بالآخر مراقي

تلقى أم سالم به تجر النوايح
يطيب مع طير الربيع التلاقي

بين أربعة جدران مانيب طايح
قطع الخرايم جبّرت عظم ساقي

في نون عيني بارق الوسم لايح
كن السحاب تسل فيها السناقي

إن عوّدوا غب المطر للفلايح
مانيب فلاحٍ يعدّل سواقي

عوّدت للي يكسبن المدايح
فيهن طرب قلبي ولذة مذاقي.

رغم حبي الشديد للجمل إلا أني أخاف ركوبه، شيء غريب وكأني عاشق يخاف لقاء معشوقته، غدا يكون اللقاء مع الجمال.

رجعت إلى البيت، وأنا أحمل بعض الفواكه والخضراوات، وبعض الجروح جراء هذا اللعب الطفولي الأهوج، وهو ما أكدته كمية الأوساخ المتراكمة على ملابسي حينها.

”اليوم إجازة، يعني أوساخًا ومرضًا وزكامًا وسعالًا في الليل“.

أمي تستقبلني دائمًا بهذا الكلام في كل إجازة.

يا بني، عيب ما تفعله أنت وأصحابك في مزارع الناس، فتكسير أغصان الأشجار، والركض فوق الحشائش الصغيرة، ومضايقة أصحاب المزارع عيب، والله عيب.

- مع أصحابي يا أمي، هما يومان في الأسبوع.

نعم يومان، ولكن لماذا لا يكون عدم إيذاء الآخرين، أو الجلوس في البيت وحل الواجبات ومساعدة أبيك أو أمك في البيت؟!

أنسحب إلى الغرفة حتى أنام..

- أمن باب الأدب والاحترام عدم الرد على أمك؟.. أهكذا أحدث نفسي دائمًا؟.

اتفقنا في اليوم الثاني أن يكون الإفطار في إحدى المزارع، وبالفعل أعددنا الجلسة ووزعنا الأدوار فيما بيننا؛ كنت من يقوم بتجهيز الفطور: فاصوليا، وبيض شكشوكة، وفول، وعدس، وكبدة، وجبن، وعسل، وثمة شخصان آخران يقومان بإحضار بعض الخضراوات من الجرجير والبقل، وشخصان أيضًا يقومان بتقطيع بعض الفواكه، وشخصان يحضران الخبز من الخباز.

وبينما كل شخص يقوم بعمله إذ بصاحب المزرعة يهجم علينا وفي يده عصا طويلة.

- أخيرًا وقعتم في يدي يا أولاد الشياطين، الله يساعد أهلكم عليكم.

- وقعنا في يدك يعني ترانا دجاجًا أو صراصيرَ صغيرة؟.

هكذا رد عليه أحد الأصدقاء، وتقدم له صديقنا الدبلوماسي كما نسميه:

- أهلًا حجي أحمد، تعال لا تزعِّل نفسك، تعال الآن أفطر معنا كبدة وبيض وجبن وكل ما يحبه قلبك، وبعد قليل يحضر الأصدقاء الخبز الساخن.

لا أعلم ساعتها ماذا حدث..

تسمر صاحب المزرعة الحجي أحمد في مكانه مبهوتًا ومندهشًا من جرأة صديقي، بينما الجميع ينتظر ردة فعل صاحب المزرعة.

ابتسم الجميع ولكن صاحب المزرعة ابتسم على وجل، ثم تقدَّم نحو السفرة المتواضعة وجلس.

- يمكن لكم يا أولادي أن تأكلوا وتشربوا من المزرعة، ولكن من العيب أن تقطعوا الأشجار، وترموا الثمار بعد أن تأكلوا نصفها أو ترموها بكامل عافيتها فوق الأرض، إضافة إلى أنكم تخربون مجرى المياه إلى المزرعة والمزارع المجاورة.

مرت لحظة صمت حسبناها سنين عدة من فرط الحرج، لحظة شعرنا خلالها جميعًا بالخجل، فلم نملك إلا أن طأطأنا رؤوسنا إلى الأرض. لقد شعرت أنا شخصيًّا حينها بالدماء حارة قوية تندفع إلى أذني ويحتقن بها وجهي الذي بدا حينها كرغيف خبز طازج خارج توًا من فوهة فرن الخباز، حتى أنني شعرت به يوشك أن يحترق من فرط سخونة الخجل.

وكأنه شعر بأننا نعترف بالخطأ، فأراد أن يكسر حالة الصمت التي أصابت الجميع، ويدخل البسمة إلى قلوبنا الصغيرة فقال:

- ولكن أهم شيء ألا يتأخر أصحابكم في جلب الخبز، فأنا رغم تناولي الفطور ساعة الفجر بعد الصلاة مباشرة فإنني أشعر الآن بالجوع، و”مصارين“ بطني تطلب الأكل وشرب الشاي، حتى لا أتأخر في تغيير مجرى مياه العين من مزرعتي إلى مزرعة جاري.

الغريب أنني لم أسمع أمي أو أبي أو صاحب المزرعة إلا وهم يقولون كلمة ”عيب“. فلم نسمع كلمة ”حرام ونار جهنم“ إلا عندما كبرنا من..... و....

قاص وإعلامي