جامع الأكواب
اعتاد الشاب الأسمر ”حاتم“ على أن ينعش أنفه الأفطس في كلّ صباح برائحة قهوتها. حتى إنّ جيوبه الأنفية المسكينة أصبحت مدمنة وبحاجة إلى برنامج تأهيل. فكلّما حانت ساعة مرور ”زينب“ في الممرّ المؤدي لمكتبها، تعمّد الخروج من مكتبه يمشي برزانة؛ علّه يحظى بنظرة أو ابتسامة، لكنّه يعود يجرّ أذيال الخيبة ولا يظفر إلّا برائحة قهوتها.
وفي صبيحة أحد الأيام تأخرت ”زينب“ وبدأت حالة من الصداع والرجفان تنتابه. وما هي إلّا ساعة حتى وجد العامل يرتب المكتب وكأنّ أحدًا ما سيحلّ مكانها، فانحدر سيل من علامات الاستفهام وبلهفة راح يسأل: أين ”زينب“؟... ما أخبار ”زينب“؟... هل هي في إجازة؟ وما هي إلّا دقائق حتى انقشع جبل الضباب وشاع الخبر. ف ”زينب“ انتقلت لمكان آخر. وهمّ بنفسه نحو مكتبها ليقوم بالمهمّة المعتادة وكأنه في رحلة استكشاف مقبرة فرعونية، وأول ما لمحت عيناه كان ”كوب قهوتها“ فراح يتقدّم نحوه متعطشًا. وكأنه للتوّ وجد قناع توت عنخ آمون، فضمّه إلى صدره ووقف بمحاذاة الباب ينظر ذات اليمين وذات الشمال ويستعدّ للهروب.
وما إن نجحت عملية الهروب حتى أقفل على نفسه باب مكتبه وراح يقبّل الكوب تارة ويشمّه تارة. يبدو أنّ رائحة القهوة المتبقية غيّرت لوحة المفاتيح في عقله فراح يقول بالإسبانية: تي ياموا سينورتا ”زينب“. ثم وضعه أمام عينيه وبدأ يستحضر صورتها المطبوعة في ذاكرته. وفي اليوم الثاني جاء أحد الموظفين ليخبرهم أنّ ”زينب“ تبلّغهم السلام وأنها نسيت كوبًا عزيزًا عليها لم يفارقها طيلة أيام دراستها. وما إن سمع الخبر حتى راح يتمتم قائلًا: ”ولِمَ كلّ هذه القسوة يا زمن! لقد حرمتني من“ زينب ”والآن عدت لتحرمني من كوبها؟... والله لن أعيده“.
تشبّث بقراره لأيام حتى جاءت لحظة لم يتوقعها، فرائحة القهوة من جديد تفوح في الممرّ. نهض من مكتبه وكأنه منوّم مغناطيسيًا. فراح يتتبّع رائحة القهوة التي أخذته نحو مكتب السكرتير وفتح الباب ليجد ”أروى“ الوجه الجديد في القسم ورائحة البنّ البرازيلي تعطّر المكان، ففتح ثغره حتى ظهرت أسنانه الصفراء. وراح يتخيّل نفسه في شوارع رودي جانيرو يرقص السامبا مع ”زينب“ و”أروى“.
وما إن بلغ المدير كثرة تردّد ”حاتم“ على مكتب ”أروى“ حتى قام باستدعائه. وبعد أيام دخل حاتم حزينًا على المدير يحمل كرتونًا وصوت تلاطم الأكواب كأنها موسيقى الراب. رمى ”حاتم“ الكرتون على مكتب المدير وراح يخرج الأكواب واحدًا تلو الآخر قائلًا بصوت مبحوح: خذ هذا كوب ”ليلى“ التي كانت تضع نظارتها الشمسية طوال اليوم وتحرمني من سحر عينيها. ثم مدّ يده وأخرج كوبًا آخر قائلًا: وهذا كوب ”سمر“ تلك الممتلئة القصيرة التي كانت تذيب قلبي عندما أشاهد أظافرها الصناعية الطويلة. وهذا الكوب المكسور لـ ”أريج“ الشقراء ذات الشعر الطويل. ثم أخرج كوبًا آخر وقال: وهذا الكوب ”لزينب“ سيدتهنّ أجمعين.
ولم يكتفِ حاتم بذلك فجلس على الكرسي وراح يبكي مثل طفل تاه في سوق مزدحم، ووضع رأسه على كلتا يديه وراح يقول: لا تلمني، لقد تعلّقت بأغراضهنّ. وفجأة استدار ”حاتم“ وراح يوجه نظرات حائرة ودموع عينيه تتساقط قائلًا: هل تذكر ”أماني“؟ تلك التي كانت تعمل في قسم المحاسبة لم أجد كوبها الأحمر. فتوسّعت حدقات عيني ذلك المدير وراح يقول: ”يخرب بيتك! أيه اللي عاملو في نفسك ده يا حتومة... أنت جنّيت وإلّا أيه؟!“. وفجأة مدّ ”المدير“ يده بهدوء أسفل الطاولة وكأنه يريد أن يخبّئ شيئًا. فقفز حاتم على الفور نحو طاولة المدير وإذا به يشاهد كوبًا أحمر وراح يحملق في المدير والصدمة تملأ عينيه.