آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الأستاذ الشيخ علي الفردان.. وداعًا

الشيخ سمير آل ربح

جاء خبر إصابته بجلطة، بل جلطات، كالصاعقة على أهله وأصدقائه ومحيطه، لم يُمهله أيامًا حتى قضى نحبه، ورحل إلى رحمة الله وعفوه ورضوانه اليوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شهر رجب الأصب في ذكرى استشهاد كاظم الغيظ موسى بن جعفر :

﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23]. قضى نحبه وهو على العهد الذي فارقنا عليه من المعرفة والإيمان والعمل الصالح والخلق الحسن.

إنه الأستاذ الشيخ علي بن محمد الفردان، ومن باب ”مَن وَرَّخَ مُؤْمِنًا فكأنما أَحيَاه“، كما رود عن سيد البشر ﷺ [مستدرك سفينة البحار: 10/ 278]، ولحقِّ الصُّحبة الطويلة التي تزيد عن أربعة عقود جمعتني به، ولتعريف المجتمع بشخصية إيمانية لافتة، تشجيعًا على نشر الخير والصلاح؛ أسطِّر هذه الكلمات لعل فيها بعض الوفاء لحقه.

مَنْ عرفه مِن قُرب يدرك إدراكًا تامًا بأنه تميَّز بخصالٍ تستحق أن نقفَ عندها؛ لأنه جسَّد تجسيدًا واقعيًا لتعاليم الإسلام كتابًا وسنة، ومن أبرز هذه الخصال:

1- الإيمان اعتقادًا وتطبيقًا، فقد التزم بقِيَمه الإيمانية وطبَّقها في سلوكه، فلا ترى فجوةً بين الاعتقاد وبين التطبيق، بل يحرص أشد الحرص على ظهور ما يعتقد به على لسانه وجوارحه وسلوكه وذهابه ومجيئه.

2- العناية الشديدة بالعبادة. التزامًا بالصلاة في أوقاتها وحضور الجماعات وإمامة المؤمنين، يؤدي الصلاة وجوبًا واستحبابًا حتى بان السجود على جبينه: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ . [الفتح: 29]. أدَّى فريضة الحج «والعمرة» مرارًا ومرارًا ومرارًا، فلم يكتفِ بالحج الواجب فحسب، ولا المستحب مرة أو مرتين، بل دأبه أداء هذه العبادة النوعية بحرص شديد؛ امتثالًا لأوامرهم وجوبًا وندبًا، حتى الحر العاملي عقد بابًا في وسائله بعنوان ”باب استحباب تكرار الحج والعمرة بقدر القدرة“، روى فيه عن محمد بن يعقوب، بسند متصل، عن أبي محمد الفراء قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: قال رسول الله ﷺ: ”تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد“. [الوسائل: 11/ 123].

ورزقه الله تعالى لسانًا ذاكرًا، فتراه مسبِّحًا مستغفرًا مصليًا مردِّدًا للأدعية والأذكار، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَه كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35]. صحبتُه ذات يوم إلى الأحساء للمشاركة في مجلس عزاء، فأصر على أن يجلس في المقعد الخلفي؛ تواضعًا منه، وليتفرغ لإنهاء أوراده التي ألزم نفسه بها.

3- تمثُّل الأخلاق الحسنة والسلوك الفاضل، حتى استطاع أن يكون قدوة لمن عايشه من أهل في المحيط القريب، ومن أصدقاء في المجتمع وزملاء في العمل؛ تراه والبسمة لا تفارقه. عن الإمام الرضا ”...، ومن تبسَّم في وجه أخيه المؤمن كتب اللهُ له حسنةً، ومن كتب اللهُ حسنةً لم يعذِّبه“. [الوسائل: 12/ 120].

يبتعد عن فضول الكلام والقيل والقال، وإذا شعر بأن أحدًا سيذكر آخرَ بسوء أو بغيبة أو نميمة، سرعان ما يتدخل بأسلوب لبق ذاكرًا المؤمنين بخير. يحسن الظن فيهم، لا يخوض في أعراضهم. مستشعرًا بقلبه ومطبِّقًا في سلوكه وصيةَ النبي ﷺ لأبي ذر. سأله «أبو ذر»: ”وإنَّا لنؤاخَذ بما تَنطق به ألسنتُنا؟ فقال: وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتِهم، إنك لا تزال سالمًا ما سكتَّ فإذا تكلمتَ كُتب لك أو عليك، يا أبا ذر إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل فيكتب بها رضوانه يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها فيهوى في جهنم ما بين السماء والأرض“. [الوسائل: 12/ 251]. وقد شهدتُ له عشرات المواقف من هذا القبيل، حتى أكاد أجزم أنه لم يغتب مسلمًا ولم يُثر فتنة ولم يذكر أحدًا بسوء، والعصمة لمن عصمهم الله.

يتواضع لإخوانه المؤمنين، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . [المائدة: 54]، فلا يرى نفسَه أمامهم، ولا يترفع عليهم، ولا يُبرز معرفته، ولا يجادل جدالًا فارغًا. يُظهِر حبَّه لهم، حتى إن كلمات «الحب» تترد على شفاهه. لا يكره ولا يبغض ولا يحقد. رزقه الله قلبًا نقيًا وفؤادًا صافيًا. عن أمير المؤمنين : ”إذا أحب الله عبدًا رزقه قلبًا سليمًا وخلقًا قويمًا“ [غرر الحكم: 4112].

كان بارًّا بوالديه، يصحب أباه في المجالس، ويرافقه أينما أراد، فكأنه وأباه صديقان، وكم يعتذر إذا أردناه في أمر بأن لديه موعدًا مع أبيه، وهذه واحدة من رسائله إليَّ في هذا السياق: ”طابت ساعاتكم وأوقاتكم.. وددنا معكم.. الحضور الجسدي بعد القلبي، ولكن حال ارتباطي ببرامج الوالد دون ذلك. لكم مني كل يوم الحب“. إن برَّه بوالده له الأولوية على أي شيء؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا . [الإسراء: 23].

وإننا بفقده نفقد أخًا مؤمنًا وصديقًا مخلصًا وداعيةً تقيًّا ومعلِّمًا فاضلًا ومربيًّا ناصحًا، وما الموتُ إلا ريحانةٌ له، فيما روي عن رسول الله [البحار: 79/ 168]، وفي تواصله الأخير معي كان يذكر لي أن الدنيا قصيرة وما هي إلا أيام ويمضي. كان يقول لي هذا من دون مناسبة، وكأنه يشعر بأن منيته قد اقتربت. عنه ﷺ أنه قال لقوم من أصحابه: من أكيس الناس؟ قال: الله ورسوله أعلم، فقال: أكثرُهم ذكرًا للموت وأشدُّهم استعدادًا له". [البحار: 79/ 168].

أبا حسين..

مضيتَ إلى لقاء ربِّك وقد أعددتَ لهذا اللقاء إيمانًا راسخًا وعملًا صالحًا ولسانًا ذاكرًا وسيرة عطرة، سيذكرك بها كل من عرفك، مترحمًا عليك مستغفرًا لك: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء: 84].

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
زكريا أبو سرير
[ تاروت ]: 7 / 2 / 2024م - 10:38 ص
جزاءكم الله الف خير شيخنا العزيز ابا علي على هذا النبع الأخوي الوفي، ورحم الله المعلم و المربي الفاضل الشيخ ابا توراة، بالفعل كل ما ذكر في المقال لمسناه فيه حرفيا، الشيخ علي رحمه الله تعالى كان شخصية فريدة في كل مزاياه الانسانية لهذا وقع الخبر بنأ رحيله كان كالصاعقة على الجميع.. إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
2
عبدالباري الدخيل
[ تاروت ]: 8 / 2 / 2024م - 3:26 م
احسنتم شيخنا
رحمه الله واثابكم