آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

اللُّغة والصندوق الأسود

الدكتور أحمد فتح الله *

كيف يتعلم الإنسان التحدث والكتابة والتفكير بـ “لغة الأم”سؤال مهم جدًا بحد ذاته، ومقاربته ترتبط بالتصور عن ماهية اللُّغة بشكل عام، أو بالمقاربات الخاصة لها التي قد تخلق تصورات مغايرة. والحديث عن تعلم اللُّغة الأم (mother / native language) أو اللُّغة الأولى (first language) أصعب بكثير من الحديث عن تعلم لغة ثانية (second language) التي تكتسب بطريقة منهجيّة ومقصودة. في المقابل، تعلم لغة الأم ليس مخططًا له وليس متعمدًا. لذا هي عمليّة شغلت علماء اللُّغة والمتخصصين فترة طويلة، ولا تزال، وأكثر وجهات النظر تأثيرًا في قضيّة اللُّغة ومسألة اكتسابها (تعلمها) هي ما طرحه العالم اللغوي نعوم تشومسكي.

1 - الصندوق الأسود

اكتساب اللُّغة، وفقًا لمفهوم تشومسكي، هو في الأساس مشكلة الصندوق الأسود (black box problem)، أي أننا نحاول فهم نظام نعرف فيه المدخلات (input) ونعرف المخرجات (output)، لكن ليس لدينا فهم دقيق للنظام (system) أو المعالج (processor) الذي تتم فيهما أو بهما معالجة المدخلات لتصبح مخرجات.

 يذهب تشومسكي إلى أن وجود بعض المعرفة بخصائص القواعد النحويّة المكتسبة والقيود المفروضة على البيانات المتاحة، يساعد على صياغة فرضيات تجريبية معقولة جدًا وقوية إلى حد ما فيما يتعلق بالهيكل الداخلي لجهاز اكتساب اللُّغة الذي يبني القواعد النحوية المفترضة من البيانات المعطاة.

2 - في الصندوق جهاز خاص لاكتساب اللُّغة

عند دراسة تعلم طفل لغة ما، يقوم العلماء بتحليل البيانات اللغوية الأساسية التي يمكن للطفل الوصول إليها (على سبيل المثال، الكلمات في الكلام الذي يتم التحدث بها له وحوله)، كما يمكنهم تحليل الكلام الذي يتحدث بها هذا الطفل العينة. لكن لا يمكنهم معاينة كيف يصبح ما يسمعه هو ما يتكلمه، وسؤال الكيفية هذه تحتاج تفسيرًا. تتبع مفهوم“جهاز الاكتساب اللُّغوي”  (language acquisition device)، اختصارًا (LAD)، هو أحد طرق تصور“الصندوق الأسود”الذي تتم فيه العمليّة غير المرئيّة. وهنا جوهر المشكلة، والتي تعرف ب“مشكلة أفلاطون”(Plato Problem)، والتي هي في صميم أفكار تشومسكي لاكتساب اللُّغة؛ ماذا لو خرج شيء من جهاز الاكتساب اللغوي لم يدخل فيه في الواقع؟ وماذا لو كانت المخرجات لا تتطابق مع المدخلات؟ بعبارات تشومسكي نفسه:“كيف نصل إلى مثل هذه المعرفة الغنية والمحددة، أو مثل هذه الأنظمة المعقدة من الإيمان والفهم، في حين أن الأدلة المتاحة لنا هزيلة للغاية؟”الجواب الذي قدمه عن سؤاله هو أن الكثير من معرفتنا اللغوية يجب أن تأتي من البنية الداخلية للعقل نفسه، وهنا يطرح تشومسكي مفهوم“فقر الحافز”(Poverty of the Stimulus)، مدللًا على أن الناتج (الغني) لا يمكن أن يكون (متوّلدًا) من المدخل“الفقير”، ويعني به الكلام الركيك وغير الفصيح الذي يسمعه الطفل من الكبار، خاصة الموجه له.

بعيدًا عن السجال الذي دار بين الرافضين لهذا الوصف، الذي ثبت خطأه بالبحث الميداني والتجريبي، وبين تشومسكي غير المقتنع من حيث المبدأ والمنهج، يمكن مقاربة مسألة الخلاف توفيقيًّا، بالقول، مثلًا، بعدم اختفاء أي شيء في“جهاز تعلم اللُّغة”، لكنَّ استخدام البشر للخبرة اللُّغويّة التي يكتسبونها يُظهر قدرة متفوقة أكثر مما يُعتقد. لذا، يمكن أن تنشأ وتتطور كفاءة لُغويّة أفضل من بيانات أوليّة (قد تبدو) أقل كفاءة، إمّا لأن بعض البنى الأساسيّة موجودة في اللُّغة أو لأن بُنى استقباليّة أساسيّة للُّغة موجودة في الدماغ البشري.

”اكتساب اللُّغة“ واستقلاليتها

"اكتساب اللُّغة”بكيفيّته الغامضة، في نظر تشومسكي، من القرائن على استقلالية اللُّغة التي استعرضناها في المقال السابق (فردانيّة اللُّغة واستقلاليتها) [1] ، إذا لا يبدو أن المبادئ العامة لِلُّغة قابلة للتعلم بالطريقة نفسها التي يتعلم بها الأطفال أشياء أخرى، بما في ذلك تعلم المهارات المعرفية الأخرى. يبدو أن تعلم اللُّغة يحدث بطريقة فريدة تمامًا. وكما يعتقد تشومسكي وأتباعه، فإن تفرد كيفية تعلم اللُّغة يوضِّح تفرُّد الوظيفة، ما يشير إلى منطقة خاصة (ربما منفصلة) من العقل تركّز على اللُّغة فقط: وهو ما يسمى ب“ملكة اللُّغة”(Language Faculty)، وإن كان هذا الرأي يتعارض مع النظريّات المعرفيّة الحديثة التي تفترض أن العقل هو نظام واحد وموحد.

يرى تشومسكي أنه من المفيد أن نفكر أنَّ“ملكة اللُّغة”، وملكة الأرقام”، وغيرهما من الملكات،“أعضاء عقليّة”(mental organs)، مماثلة للقلب أو للجهاز البصري أو لنظام التنسيق والتخطيط الحركي. هذا، رغم أن التنظير التشومسكي لا يملك الإجابة عن سؤال لماذا لا يمكن تمييز مجموعة من العمليات التي تبدو قائمة بذاتها ومتميزة نوعيًّا بذات الطريقة التي يتم بها عادة تمييز عضو ما في جسم الإنسان؟

سبب آخر للتفكير في اللُّغة في هذه المصطلحات يتعلق بـ “عالميّة اللُّغة”(universality of language) على حد تعبير تشومسكي: هذا“العضو اللُّغوي”(language organ)، أو“ملكة اللُّغة”حسب تسميته، مُلكيّة بشرية مشتركة، تختلف قليلاً عبر أقوام الإنسان. وهذا ما يهتم به التشومسكيُّون واللغويُّون النظريُّون واقعًا عند دراستهم لِلُّغة، حيث أنهم لا يهتمون بأي لغة معينة (كاللُّغة الفرنسية أو العربية أو الإنجليزية، على سبيل المثال)، ولكن ب“ظاهرة اللُّغة”(عند التنظيريّن)، أو“ملكة اللُّغة”(عند التشومسكيين)، في عموم الجنس البشري؛ هي تشمل بالضرورة كلَّ لغة يتكلمها قوم من البشر.

[1]  رابط المقال:

https://jehat.net/107745
تاروت - القطيف