آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

المؤرخ الجنبي وقراءة التاريخ المحلي

فارقنا المؤرخ والباحث الكبير عبد الخالق الجنبي ولا يزل إرثه التاريخي ينبض بيننا بالحياة، مشكلاً بصمة فارقة عن كتابات أقرانه من المؤرخين، فقد امتاز الجنبي - رحمه الله - بأنه لا يسلم لما كتب من معلومات تاريخية، بل يبحثها ويحقق في خلفياتها التاريخية، ويقلب آثارها المكتشفة من قبل البعثات وعلماء الآثار مستعيناً تارة بالوثائق وتارة بأشعار العرب وأخرى بالقرائن والمخطوطات التاريخية وصولا إلى الوقوف عليها في ميدان الواقع والطبيعة.

وقراءة التاريخ تختلف من مؤرخ إلى آخر، فمنها سردي يعتمد على تجميع ونقل المعلومات التاريخية بدون البحث والتحقق من خلفيات المعلومة، ومنها ما يخضع للبحث والتحقيق والتوثق من صحة المعلومات التاريخية، وحتى يتمكن المؤرخ الحاذق من بلوغ الحقائق التاريخية المندثرة فلا بد أن يقرأ التاريخ من عدة زوايا، حتى تكتمل أركان المشاهد والصور التاريخية الحقيقية أو الواقعية ”فالتاريخ لايقراء من زاوية واحدة“.

وفي تدوين التاريخ والتراث قد يسهل على المؤرخ تحصيل المعلومات التاريخية، ولكن من الصعوبة التحقق من إثبات ما صح منها، فذلك يتطلب البحث المضني في أمهات الكتب التاريخية والنظر في المخطوطات والوثائق التاريخية والاطلاع على كتب الجغرافيا والبحث في كتب الأدب وأشعار العرب وضبط معطياتها جميعاًَ في الميدان، حتى تخرج الصورة التاريخية مكتملة.

وقد تركز جل اهتمام أبي طاهر - رحمه الله - وهمه في إحياء ما اندثر من آثار تاريخية لما عرف بإقليم البحرين التاريخي والمعروف حديثاً بكل من البحرين والقطيف والأحساء وتنوع في البحث والكتابة بين التاريخ والجغرافيا والأدب العربي.

وكان عضو في جمعية التاريخ والآثار بالمملكة العربية السعودية.

ومن أبرز أعماله ونتاجه التاريخي شرح ديوان ابن المقرب العُيوني، وهجر وقصباتها الثلاث، وجره مدينة التجارة العالمية القديمة، والمحفوظ من تاريخ الشريف العابد أخي محسن.

فالمؤرخ عبد الخالق بن عبدالجليل الجنبي، ولد في قرية القديح في 9 ربيع الثاني 1384 هـ، والتحق بمدرسة الفلاح الابتدائية بالقطيف، ثم انتقل لإكمال دراسته في مدرسة الشاطئ الابتدائية، ثم التحق بمدرسة القطيف النموذجية المتوسطة، فدرس المرحلة المتوسطة فيها، والتحق بعدها بمدرسة القطيف الثانوية لدراسة المرحلة الثانوية، بقسم الأدبي، ونال شهادة هذه المرحلة في العام 1409 هـ.

ثم التحق بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، فدرس فيها سنتين ونصف، ولم يحالفه الحظ لإكمال الدارسة بها، فتحول توجهه لشغف الارتواء من ينبوع العلوم التاريخية، فقد انهمك في قراءة الكتب والبحوث، ولاسيما تلك المتعلقة بالتاريخ والآثار؛ مما كان له دورٌ كبير في صقل موهبة كتابة البحوث التاريخية التي طبع له الكثير منها.

في العام 1415 هـ التحق للعمل بوظيفة حكومية في دار التوجيه الاجتماعي بالدمام لمدة سنتين، ثم في عام 1417 هـ التحق بالعمل رسمياً في وزارة الصحة السعودية.

ومن مؤلفاته تحقيق شرح ديوان ابن المقرب وتحوي الطبعة الأولى من هذا التحقيق على ثلاثة مجلدات، وكان المجلدان الأوّلان يتضمنان تحقيقاً لهذا الديوان بعد مراجعته على عشرين مخطوطة، في حين تضمن المجلد الثالث دراسة مفصلة عن الشاعر وديوانه، وقد تم طبعه عام 1424 هـ، وخرجت الطبعة الثانية من هذا التحقيق عام 1433 هـ بعد أن تمكن الباحث الجنبي من الحصول على مخطوطتين مشروحتين نادرتين إحداهما نسخة المكتبة الوطنية بطهران التي يعود تاريخها إلى القرن السابع الهجري، ويعود تاريخ الثانية إلى بداية القرن الحادي عشر الهجري، وهي نسخة مكتبة سانت بطرس برغ الكبير بروسيا، ظهرتْ الطبعة الجديدة في سبعة أجزاء، الخمسة الأولى، وهي لمادة الديوان وشروحه وتعليقات الجنبي عليه وملاحظاته، في حين اختص المجلد السادس الذي يحتوي على الفهارس، وأما المجلد السابع فهو عبارة عن دراسة تاريخية شاملة لسيرة ابن المقرَّب وشعره.

وكتاب هجر وقصباتها الثلاث المُشَقَّرُ والصَّفَا والشَّبْعَاْنُ ونهرُها مُحَلِّم وهو بحثٍ ميداني وتاريخي حول هذه المدينة التي كان لها صيتٌ كبير في أدبيات العرب القديمة، وقد خرجت طبعة هذا الكتاب الأولى في عام 1425 هـ، وتم إعادة طبعه مع إضافات كثيرة، فخرجت طبعته الثانية ليستوعب الكثير من الإضافات والصور والخرائط والرسوم والملاحق التوضيحية.

وانبرى الكاتب برأي لأول مرّة يكشف فيه عن موضع مدينة هجر المشهورة في التاريخ العربي، وكذلك موضع حصنيها الأشهرين المُشَقَّر والصََّفَا ونهرِها مُحَلِّم اعتماداً على التحليل العلمي للنصوص ومقارنتها مع بعضها بعد دراسة ميدانية وافية لطبيعة واحة الأحساء وعيونها وأنهارها أدّت إلى النتيجة التي وصل إليها الباحث في الكتاب.

وكتاب آخر يتضمن نقد مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين على ديوان ابن المقرَّب، ونشر الباحث الجنبي هذا الكتاب في العام 1426 هـ، منتقداً فيه طبعة مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري لديوان الشاعر علي بن المقرَّب العُيوني الأحسائي، وقد دون الجنبي في هذا الكتاب مائة وست عشرة ملاحظة عن أخطاء تاريخية وجغرافية وعلمية وقعت في هذه الطبعة.

وكتاب قبر الآجام ونُشر في العام 1430 هـ، وهو دراسة تاريخية جغرافية لقرية الآجام، تتحدث عن صاحب قبر مدفون فيها، ويرى الجنبي أنّ هذا القبر إن كان لنبي بالفعل، فينبغي أن يكون لنبي عبد القيس رئاب بن البراء الشني العبدي.

وكتاب تحقيق المنظومة الهجرية للملا عطية الجمري البحراني، وحوى تحقيقٌ عن قصيدة للخطيب المُلا عطية الجمري البحراني بعنوان «المنظومة الهجرية» ذكر فيها الكثير عن واحة الأحساء التاريخية والجغرافية والأسرية والعلمية.

وكتاب عن جرّه مدينة التجارة العالمية القديمة، ويعرّف الباحث في هذا الكتاب جرّه بأنها مدينةٍ حضارية عريقة وفاحشة الثراء نالت شهرةً أسطورية أخاذة لدى المؤرخين الإغريق والرومان في القرون الثلاثة السابقة لميلاد المسيح ، وكذلك في القرنين اللذين بعده، وهي مدينة كتب الكثير عنها من الباحثين الغربيين والشرقيين والعرب في العصر الحديث.

وكتاب عن جواثا ومسجدها وحوى سيرة عن سكانها من قبيلة بني عبد القيس وانتهاء بزحف الرمال عليها.

وكتاب المحفوظ من تاريخ الشريف العابد أخي محسن وهو تجميع وتحقيق حوى مادةً معلوماتيةً عن تاريخ الدولة الفاطمية، والإسماعيلية وفرقها، ولاسيما قرامطة العراق والبحرين الذين أكثر الشريف العابد من ذكر أخبارهم بروايات أغلبها نادر، وخصوصاً ما يتعلق منها بقرامطة البحرين، وذكر تأسيس دولتهم فيها وأخذهم للقطيف وهجر بتفصيل مسهب، وتتكون هذه الطبعة من جزأين ضم الجزءُ الأول متنَ التاريخ المجموع مع الحواشي والتعليقات التي وضعها المحقق، في حين ضم الجزءُ الثاني ترجمة مفصلة للشريف العابد أخي محسن، ودراسة وافية عن هذا التاريخ، بالإضافة إلى تسعة ملاحق منها الملحق الأول الذي يتحدث عن نسب المهدي الفاطمي وخلفائه، وترجمة وافية لنسب عبد الله بن ميمون القداح الذي نسبهم الشريف العابد أخو محسن إليه، وملحق آخر في تحديد موضع رمل الهبير وملحقٌ تحدَّث المؤلف فيه عن الشخصية القرمطية المحيّرة والمثيرة للجدل التي ظهرت عند قرامطة البحرين، وهو المعروف بالزَّكْري أو زكيرى الأصفهاني كما ضمَّ هذا الجزءُ خرائط تفصيلية وبعض الصور لأهم المواضع الواردة في هذا التاريخ في العراق والشام والبحرين.

وكتاب عن إقليم البحرين وتفاصيل سكانه القدامى.

وكتاب يتضمن بحوثاً تتعلق بتاريخ وجغرافية ما كان يُعرف في السابق باسم «إقليم البحرين» وكان الجنبي قد نشرها في بعض المجلات ومواقع الشبكة «الإنترنت»، فقام بإعادة صياغتها وتوثيقها وإضافة الصور والخرائط التوثيقية لها، ونشرها في هذا الكتاب، وله عدة مقالات في صحف محلية.

وتوفي الجنبي - رحمه الله - في يوم الثلاثاء الموافق 4 رجب 1445 هـ بمستشفى الملك فهد التخصصي في الدمام، عن عمر ناهز 61 عاماً إثر معاناة مريرة مع المرض.