آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 1:35 م

مذكرات أمل «3»

رضي منصور العسيف *

كان ذلك في يوم الخميس 11 محرم 1411 هـ الموافق 2/8/1990

جاء أبي وطلب الراديو... أين الراديو؟

سألته أمي وماذا تريد منه؟!

أجابها: حدث سياسي سيؤثر على المنطقة...

قالت أمي: ماذا حدث لماذا تتكلم بصورة متقطعة؟!

قال أبي: صدام دخل الكويت... صدام احتل الكويت، الكويت تعيش حالة استنفار... استيقظ الكويتيون على صوت الرصاص... شاهدوا الدبابات والجنود تتجول في شوارع الكويت... انصدم الكويتيون مما حدث لبلادهم...

فتح أبي الراديو وصار يستمع...

الخبر صحيح مئة بالمئة...

صار أبي يتابع الأخبار بشكل يومي، كان يستمع لإذاعة لندن... ويقرأ الصحف اليومية خصوصاً صحيفة الشرق الأوسط...

لقد خرج الكويتيون من بلادهم إلى الدول الأخرى، استضفنا قسماً كبيراً منهم في بلادنا، في مختلف المناطق، الشرقية، الرياض، الغربية.. هنا في الشرقية سكن عدد كبير من الكويتيين في إسكان الدمام، وقسم منهم سكن في إسكان القطيف...

خرجتُ من وحدة العناية المركزة بعد إتمام الشهر، وكان قد مضى على احتلال الكويت 10 أيام..

حضر الأقارب يباركون لأمي ويطمئنون على صحتنا خصوصاً بعد معرفتهم بالعملية...

كانت الأجواء سعيدة، حتى قالت إحدى النساء ”حرام عليك يا أم خالد لماذا لم تنتظمي على علاج الفوليك أسيد.. لو واضبطتي عليه لما صار لابنتك هذا المرض“.

ساد الصمت...

نظر البعض لأمي، التي ابتسمت وقالت: الحمد لله، هذه إرادة الله...

بعد ساعة خرجت النساء، فكتبت أمي ورقة صغيرة ”الزيارة مغلقة مواساة لأهلنا في الكويت“

رحب أبي بالفكرة وقال: نعم نحن مع الكويت جسدا واحدا وما حدث لهم أحزننا...

مضت الأيام وأزمة الكويت في تصاعد...

في أحد الأيام قال أبي: الحرب قادمة لا محال.. لقد رفض صدام جميع الحلول الدبلوماسية، ورفض أن يخرج من الكويت...

في إحدى الليالي كنا خارج البيت، فجأة سمعنا صوت صفارات الإنذار، وبعدها سمعنا صوت انفجار قوي... رجعنا البيت ونحن خائفون.

في اليوم الثاني كان أبي يقرأ الجريدة فقال: كان ذلك الصوت هو اعتراض صاروخ سكود الذي أطلقه العراق على مدينة الظهران... الحمد لله لقد تم تدميره، ولكن سقط جزء من الصاروخ على بعض المباني، والحمد لله لم تكن هناك إصابات.

بعدها قرر أبي أن لا خروج بالليل، حيث إن الحرب في تصاعد، وأن العراق لم يبال بالحشود العسكرية...

في أحد الأيام أحضر أبي مجموعة من الكمامات العسكرية، كان شكلها مخيفاً للغاية، وقال: علينا أن نكون جاهزين لأي مفاجأة، ربما يستخدم العراق أسلحة كيماوية، لقد قرأت ذلك في الجريدة وسمعت الأخبار منذ قليل...

قالت أمي: إنا لله وإنا إليه راجعون، الله يحفظنا من هذه الحرب...

قال أبي: علينا أن نبدأ بتجهيز غرفة تكون كملجأ لنا في حال استخدمت الأسلحة الكيماوية، يجب أن تكون محكمة الإغلاق..

قالت جدتي: كل إنسان وله يوم يتوفى فيه...

قال أبي: ونعم بالله ولكن الحرص واجب يا أمي...

بعد أيام قال أبي: مصيبة يرتكبها الجيش العراقي في الكويت...

قالت أمي: وماذا فعل أيضاً ألا يكفي هذا التشريد للشعب الكويتي، وهذا القتل والنهب للممتلكات...

قال أبي: لقد قام الجيش بسكب ما يقارب مليون طن من النفط الخام في مياه الخليج العربي.

هذا ما تقوله الأخبار... وكذلك قام بإحراق أكثر من 750 بئرًا نفطية.

وأعتقد أن الحرب الحقيقية قد بدأت...

في تلك الليلة كنا جالسين نشاهد برامج التلفاز فجأة سمعنا صوت صفارات الإنذار، كان الصوت مخيفاً جداً...

قال أبي علينا أن نتحصن في الغرفة...

ذهبنا جميعاً لتلك الغرفة التي تم إعدادها مسبقا... وفجأة سمعنا صوت انفجار ضخم... خفنا مما سيحدثه هذا الانفجار... هل سيكون وراءه غازات سامة...

قالت جدتي: رحمتك يا رب... أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.

لا يزال صوت صفارات الإنذار المرعب يدوي في الخارج... بعد ساعة ساد الصمت...

فتح أبي الراديو ليسمع آخر المستجدات... لم يعمل الراديو جيداً... الإذاعة لم تعمل... ازداد خوفنا...

قال أبي: علينا أن نؤمن بقضاء الله وقدره وأن الله خير حافظ...

لم نستطع النوم تلك الليلة...

في الصباح الباكر... خرج أبي، وما لبث أن عاد إلينا بعد نصف ساعة حاملا معه الخبز والحليب والجبن... استقبلته أمي وقالت: ما هذا؟ ما هي الأخبار؟

قال أبي: اخرجوا الآن... لقد زال الخطر... الحمد لله....

خرجنا واستنشقنا الهواء ثم قالت: لا وجود لرائحة غازات سامة الحمد لله...

في ظهر ذلك اليوم عرفنا تفاصيل الانفجار، حيث أصاب صاروخ سكود عراقي ثكنة للجنود الأمريكيين في مدينة الظهران..

عشنا أيام عصيبة...

وفي يوم 26 فبراير عام 1991 تم تحرير الكويت بعد 7 شهور كانت من أصعب الشهور التي مرت على الكويتيين حيث استشهد عدد من أبناء الكويت، والخسائر المادية.. ولا يزال هناك عدد من الكويتيين في عداد المفقودين لا يعرف مصيرهم إلى الآن...

بتحرير الكويت بلغت من العمر 7 شهور أيضاً... وهذا ملخص الحكاية التي سمعتها من أمي، وها أنا أكتبها لكم لتكون ذكرى خالدة.

وعندما نشاهد في التلفاز ذكرى التحرير... تدمع عيوننا لأننا نرى فرحة الكويتيتن بعودتهم لبلادهم... وهم يرددون:

بلادنا حلوة حلوة بس الوطن ماله مثيل
لو عنا سافرنا الشوق يرجعنا..
حب الوطن غالي والعيشة فيه جنة
لوعنا سافرنا نشتاق في بعده
لو نبتدي منه رح ننتهي عنده

للقصة بقية،،

همسة أمل

قال الإمام علي : ”عمرت البلدان بحب الأوطان“ و”حب الوطن من الإيمان“ [1] .

[1]  البحار: 78 / 45 / 50 و 74 / 264 / 3.
كاتب وأخصائي تغذية- القطيف