آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 4:21 م

عائشة بلا حد

يسرى الزاير

هنا لن أتكلم أو أنقد محتوى حد الذاكرة للدكتورة عائشة المانع فالكتاب أرفع من الكلام وصاحبته أسمى من النقد.

فقط أحاول سرد حالتي الذهنية وانطباعاتي النفسية، وأنا أسابق السطور متلهفة للمشهد الآخر وما يليه.

بدايةً أقول: لم أكن أقراء إنما كنت أشاهد.

نعم أشاهد بالصوت والصورة، لقد حملتني عائشة إلى حيث كانت وعايشت معها تفاصيل الأماكن والأحداث ليس بالمشاهد فقط، بل حتى للألوان والرائحة والأصوات.

بعذوبة شامخة انسابت منها الذاكرة فلم يكن لها حد.

في نظري هذا الكتاب ثروة ناعمة على كل سيدة وفتاة فصفصة محتواه فحتماً ستتجلى للقارئة حياة المرأة حين تطوّع العزيمة وتهزم الصعاب.

وستعرف أن النجاح يولد نجاحات، وأنّ الإيمان بأحقية الحياة بكامل حقوقها يعني استمرارية التطلع والإنجاز.

أما للرجل والشاب حتماً سوف يصلهم صوت الأب محمد المانع، وهو يدفع ابنته دفعاً نحو مستقبل مشرق مستدام ملؤه التميز والعطاء.

عائشة بنت محمد بتواريخ ميلادهم هما نموذج حقيقي

يشير إلى أن رجاحة العقل وإحقاق الحق دوماً تنتصر على العرف والعادة.

وأينما وجد الوعي بأهمية جودة الحياة وجدت السبل للقفز على العقبات.

وذلك لا يكون دون يقين من الشخص بوجب إثبات الوجود عن طريق العمل الدؤوب في تحصيل العلم والعمل ليس فقط لأجل التحصيل المادي المعيشي، بل لا بد أن يصاحبه تحصيل معنوي فالكل يعمل ليكسب قوته، لكن قلة من يسعون لإحداث فارق وتغيير ببصمة تشير لوجودهم بهذه الدنيا الواسعة.

ولا تسأل عن حين يتجسد الحب بجانب الوعي والثقافة في الأب فحتماً ينشئ ابنة متميزة فكراً وطموحا وإنجازاً.

كما وأحب أن أتوقف هنا كي أوضح ملاحظتي التي رافقتني منذ أول الوعي إلى يومي هذا، وبمناسبة شهادة دكتورة عائشة بأن والدها لم يكن لها فقط الدافع والمشجع نحو النجاح والتميز، بل إنه كما وصلني من خلال وصفها كان ربان سفينتها وأشرعتها.

في زمن كان المجتمع بكل ما فيه ذكوري سلطوي بحت، ورغم ذلك كان للرجل الأب بحكم الغريزة الطبيعة والانفتاحية الفكرية سلطة تحريرية مغايرة قدمت مصلحة البنت ومستقبلها على أعراف وعادات بالية ابتدعها الذكر بدافع الاستحواذ على مناحي المعيشة الاقتصادية وتوابعها.

ومثله يفعل الآباء الطبيعيون في كل زمان ومكان ولو في أقسى الظروف.

ويكفينا فخراً عائشة بنت محمد المانع نموذجاً ملهماً في وقت سادت فيه الرجعية المجتمع منتهجاً العرف والعادة عوّضا عن إحقاق الحقوق والإنصاف.

عائشة ومثيلاتها من سيدات ذاك الجيل مؤكد أنهن نماذج لا تتكرر، إنما لابد ويجب أن يحتذى بها.

وبالطبع لن يغيب على المطلع أننا حين نتكلم عن جيل الدكتورة عائشة، فمن البديهي أن والدها - رحمه الله - يسبقها بجيل وهذا يعني أن العقول المتحررة من العرف والعادة لا يحدها زمان، ولا يثني عزمها المكان فهي التي تنحرف عن مسيرة القطيع لتؤسس كيانا مستقلاً يشبهها ويليق بتطلعها ورسالتها.

ولا يخفى على أحد أن العلم سلاح في وجه الجهل وسبيل العمل والنجاح، وكلما كبرت الشهادة كلما فتحت أبواباً للمعيشة الرفيعة، لكن عندما يقترن التحصيل العلميّ العالي بالثراء الفكري الراقي والإنجاز العملي الدقيق المساهم برفع جودة الحياة للأفراد والمجموعات خارج إطار العلاقات الخاصة من أسرة ومعارف وأصدقاء، فهذا يعني مضامين رسائلية إنسانية أكثر من رائعة.

فهنيئا لك دكتورة عائشة الحس الإنساني المرهف والإيثار المجتمعي المنقطع النظير.

وعذراً منك دكتورة على الكلمات الخاطفة بحقك فتاريخك الحافل لا تحده مقالة وشخصك النبيل المعطاء الراقي الرقيق لا توفيه الكلمات.

من كل قلبي أتمنى من بنات الجيل الحالي جيل الرؤية والانفتاح في ظل الأنظمة والقوانين الكافلة لحقوق المرأة التي برغم قصر مدة العمل بها إلا أنها وبكل جدارة سبقت دول الجوار وكثير من الدول العربية التي سبّقت المملكة تطوراً وانفتاحا بعقود طويلة، وكذاك مواكبة التقنيات متسارعة الحداثة وما إلى ذلك من تطور صاروخي على كافة الأصعدة العلمية والبحثية والتطويرية والوظيفية والمهنية التي أثبتت المرأة والفتاة السعودية جدارة منافسة ومتفوقة في كل محفل وعلى كل صعيد.

فكم هو رائع أن يتوج كل نجاح ومثابرة بفكر منفتح واع وواعد.

فإن كان التحصيل العلمي والعملي أماناً معيشي، فإن مصاحبة الفكر التنويري الإبداعي والابتكاري استدامة لجودة الحياة ورقي الإنسان مدى الحياة.

أتصور أن كل من يقرأ حد الذاكرة سوف يتأثر بغزارة الإنجاز وثراء التجربة، كما ستستفز عقله للبحث عن كينونته ومكامن قدراته وإبداعاته، ولن يفوته أن إيجاد مساحة لموضع بصمته بهذا الكون الفسيح ليس بالأمر اليسير فالازدحام شديد والأرض مكتظة بكل غث وسمين، وإن كان السمين ليناً بسيطاً ومن السهل المنافسة والندية فيه، فإن الغث صعب محبط مؤذ وعنيد.

وأخيرا أذكر بما ذكرته الدكتورة عائشة عن ذكورية المجتمع الغربي في بعض نواحيه وعنصريته وما إلى ذلك…

أؤكد من حيث قراءتي المتأنية القديمة الجديدة طوال مراحل حياتي منذ أول الوعي حتى هذه اللحظة، والتي تتلخص بأن العالم كله ذو صبغة ذكورية متوارثة، ورغم كل ما وصلت له المرأة لليوم يجهدها وشقاءها مازال كثير من الذكور يستميت في أن يبدو وكأن حقوق المرأة هبة ومكرمة من قبل الرجل.

وما على الشاك إلا أخذ جولة على أرض الواقع وأخرى في العالم الافتراضي. ليتضح له مستوى الذكورية الطاغي بكل مكان.

إلا أن المرأة اليوم في ظل حقوقها والقانون أصبحت متمكنة من انتزاع حقوقها والدفاع عن نفسها وفرض شخصها كإنسان كامل الأهلية مستقل. تحافظ على مكتسباتها الحقوقية بكل ما أوتيت من قوة.

فما تفضلت به وأوضحت الدكتورة في تجربتها من معاناة وإجحاف ومعوقات طوال مسيرتها العلمية والعملية وحتى الحياتية لم يعد موجوداً.

اليوم فرص التقدم والمنافسة على كل الأصعدة متاحة للمرأة السعودية، ويبقى الوعي والعمق الثقافي الفكري بمبادئه وقيمه هو البصمة الفارقة في كل سيرة وتجربة.

أما ما أحب أن تستفيد منه بنات هذا الجيل من سيرة الدكتورة عائشة إحدى نساء جيل الأصالة والفخامة الإنسانية اختصره في نقاط بسيطة أوجهها لقلة قليلة من الشابات اللاتي رغم تعليمهن وحياتهم العصرية يعانين من سطحيّة الفكر والآنية في الحياة….

أعني بالآنية في الحياة أنهنّ يعيشون بالبركة كما نقولها بالعامية، أي دون رؤية مستقبلية ولا تخطيط.

من تعني لهن الدراسة تحصيل شهادة على أنها سمة تحضر ورفعة اجتماعية، ومنها الحصول على وظيفة يصرف مدخولها أولا بأول على مظاهر كذابة لا تغني ولا تسمن.

من تميع شخصياتهم وتضيع أوقاتهم على نواصي المطاعم والمقاهي. وكأن التسكع إنجاز.

من يعتقدن أن الحرية والتحرر وبهجة الحياة والثراء هو سفّر وإكسسوارات وآخر صيحات الموضة من أزياء.

ومرحلة الشباب هي مرحلة المرح بلا ضوابط أو حدود.

فلنعلم أن ما نكون عليه اليوم سوف تحمّله بواطننا غداً إذ إن مستقبل الإنسان الناضج يكون نتاج يومه كيف وبما يقضيه، وما مستقبله سوى ثمرة ماضيه.

ولنا في حد الذاكرة وصاحبته سيرة عطرة ملهمة.

لك خالص التحايا وكل الود دكتورة عائشة على هذه الرحلة الشيقة في الذاكرة بالفعل أمتعتنا.

حفظك الله ورعاك وسدد خطاك.