”خمس دقايق ونوصل المطعم“
كنت مسافراً مع العائلة، زوجتي وابني الصغير علي، إلى إحدى الدول الباردة، ولا أخفيكم أنني أعشق البرد والأمطار والثلوج، وأقصد هذه الدولة من كل عام في شهر ديسمبر، حيث تبدأ فيها مواسم الأمطار والبرد.
نتنقل كثيراً بين المواقع السياحية والطرقات والمطاعم والمقاهي والحدائق العامة، حيث تشتهر هذه الدولة بمناظرها الطبيعية الخلابة، وسحرها المدني الجذاب، وتكتسي حلة الشتاء بالأمطار والصقيع والثلج غالب الأحيان.
خرجنا من الفندق كالعادة نقصد متنزهاً سياحياً عبر التاكسي، ونتوق للذهاب لمقصد سياحي يزوره غالب السياح لهذه المدينة الساحرة، على البحر والشاطئ المليء بالمراكب البحرية، والعبارات والسفن المكتظة بالسياح، وكانت الأجواء جميلة وصحو والطقس ماتع.
وصلنا بجانب كورنيش البحر حديقة غناء، وأشجار طويلة وطبيعة تمتاز بالخضرة وقطرات الندى تملئ أوراقها، وبينما نحن نتمشى وبصحبتي زوجتي وابني الصغير علي على العربة، كانت الأجواء أكثر من جميلة وأكثر من رائعة.
إلى أن غمرت السماء سحابة سوداء حالكة السواد، وممتدة بعرضها وطولها عرض السماء، وتحولت تلك الحديقة النهارية في دقائق معدودة إلى ليل، واصطكت الغيوم ببعضها والبرق أخذ يبرق، والرعد أخذ في ازدياد، وأقول لزوجتي المطر الكثيف قادم، ونحن على قدمينا نتمشى، والطريق الذي به سيارات بعيد قليلاً عنا.
نلتقط صور سلفي هنا وهناك، ونضحك ونلهو، وما هي إلا لحظات وهطلت الأمطار، وكأن السماء بقوتها تدفع المطر للسقوط، مطر غزير جداً، فأخذت عربة طفلي وزوجتي، وأخذنا في الهروب من الحديقة، نبحث عن باب الخروج، وللأسف الشديد لم يكن هناك مخبأ، أو مظلة نستظل تحتها، من قوة المطر، والبرد القارص، وثيابنا التي تبللت كثيراً وعربة الطفل التي لو صبرنا لغرقت من المطر.
واصلنا الهروب والمشي بكل قوة وسرعة للخروج من الحديقة المطلة على البحر، نبحث عن سيارة تاكسي تقلنا إلى وجهة سياحية مغلقة أخرى، نعوض فيها يومنا السياحي، والسبب سقوط الأمطار القوية التي حرمتنا لحظات اللهو والاستجمام والاستمتاع بالطبيعة، أخطنا في الجري عبر الأرصفة الجانبية.
مضينا نجري تحت المطر لمدة تجاوزت ال 15 دقيقة نبحث عن سيارة تاكسي، وفي هذا الأثناء الجميع هرب والجميع يبحث عن سيارة، والجميع في الطرق بحث عن مطاعم ومقاهي يستظل فيها عن المطر والبلل، وصلنا لمظلة صغير لنقل الركاب العام، في الرصيف، وكانت ممتلئة بالانتظار، ودخلنا بينهم لنأخذ قسطاً من الراحة، وخوفي ازداد على ابني من البرد والمطر، لا يأخذه تيار الهواء البارد ويمرض.
وصلت سيارة أوبر التي تضاعفت قيمة أجرتها لثلاثة أضعاف مع وجود العاصفة المطرية قدمت لها طلباً لتنقلنا إلى أقرب مطعم في مول يبعد عنا تقريباً نصف ساعة، والجوع فينا أخذ ما أخذ، وكنا وقتها على طريق مرتفع جبلي للوصول لوجهتنا التي كنا فيها، وتحيطه الأشجار والجبال من الجهة اليسرى، والجهة اليمنى ترى القاع.
بدأت السيارات في الصعود أكثر للقمة لسلك الطريق الرئيسي والخروج من هذه المنطقة الوعرة، والسيارات أصبحت تنزلق ولا تستطيع التماسك على الطريق بسبب المطر الغزير والصقيع الذي تكون على الأسفلت وارتفاع الطريق الرأسي صعوداً، وفي هذا الأثناء سيارتنا التي تقلنا تحاول الصعود ولكن هيهات، لم يستطع السائق تدبر أمر القيادة، وأخذت السيارة في الانزلاق للخلف، وخلفنا عدد من السيارات.
وفي هذا الأثناء أخذت زوجتي جوالها للبحث عن وجهة ومطعم أقرب من المطعم الذي أشرت إليه في المول، وأنا كنت أظن أنها تتسلى وتراجع بعض الصور، وبينما السيارة تنزلق وتأخذ لفة 360 درجة عن وجهتها، بدأت ملامح الخوف تمتلكني، ونحن على قمة وخلفنا سيارات، وحافلات، والسيارة وقائدها يحاول التماسك، ولكن لم يستطع من إيقاف تدحرج السيارة.
وبين كل هذه الظروف الوعرة والصعبة، التفتت زوجتي حولي وهي ممسكة في جوالها، وخارطة قوقل ماب التي بحثت فيها عن وجهة أقرب مطعم والسيارة التي نحن فيها تلتف وتتدحرج، قالت لي «بو علي باقي خمس دقايق ونوصل المطعم»، لا إرادياً ضحكت بصوت عال، ونبرة الخوف تسكن عيناي، ونبضي..!
مطعم أي مطعم ونحن في هذا المأزق..؟
قلت لها وش تقولين..؟
قالت بس مشوارنا ما يأخذ وقت أكثر من خمس دقائق، فقط..!
قلت لها أنتي جادة ولا تمزحين، شكلك مو معنا بالسيارة، ولا شاهدتي ولاعشتي اللحظات اللي قاعدين نعيشها، والسيارة تنزلق، وتتدحرج للخلف وكادت أن تصطدم بعدد من السيارات، ولولا لطف الله وحنكة قائد السيارة الذي أثبت إمكانياته في القيادة وقدرة التصرف، لكنا في قاع الجبل تدحرجنا مع عدد من السيارات.
ضحكت زوجتي وقالت معكم معكم، ولكني منهمرة في البحث عن وجهة سياحية ومطعم نركن فيها ونكمل جولتنا السياحية عشان يومنا لا يروح، هههه.
ضحكت مرة أخرى وبصوت مرتفع، والحمد لله السيارة بدأت تأخذ مسارها في العبور للأمام وكأن السماء انقشعت سحايبها وغيومها، وكأن الوقت العصيب الذي مررنا فيه بدأ يعبر بسرعة، وكأن تلك الدقائق التي كانت في السيارة، ولت وذهبت ولم تكن.
استمرينا في التوجه لوجهتنا، وبعدها أخذت الحديث مع زوجتي، وقلت لها، لولا خفة دمك، الذي جاءت تعترض الموقف العصيب، لانهارت أعصابي ونرفزت وعلقت تعليقاً لربما ساخن جداً ولا يعجبك، لأننا كنا في موقف حرج، لم ولن تعرفيه، ولكن الحمد لله، وشكراً لمداعبتك بهذه النكتة الخفيفة اللطيفة، ضحكنا والحمد لله وصلنا لوجهتنا السياحية، ونزلنا على أقرب مطعم لنأكل ونشرب السواخن، ونهدأ من العاصفة المطرية، التي ألقت بظلالها على رحلتنا.
استمتعنا بالوقت الرائع وكأن شيئاً لم يكن، وتذكرت حينها كم يحتاج الإنسان لكلمات لطيفة ونكت ومزاح، وترفيه عن النفس تخفف عليه في الأوقات والظروف الصعبة، وكم يحتاج الإنسان لأشخاص تحيطه بأمان ليشعر ويستشعر السلام والأمان والمحبة، ويعبر من محطات الحياة، أعزائي القراء، لا نحرم أنفسنا من التوقف قليلاً للترفيه في كل الظروف الصعبة، تهدأ النفس، وتستقيم الأفكار.