مارد الغضب
تصرفات الإنسان السوي وسلوكياته وردات فعله تخضع للمنطق وطريقة تفكيره الصائبة، والتي يدعوه رشده إلى التأني والتدقيق في كل ما يصدر عنه لئلا يسقط من أعين الناس من حوله إن فعل شيئا تحت وقع الانفعال الشديد والتهور، والحفاظ على سمته واتزانه النفسي والانفعالي هو ما يؤهله للتعامل بواقعية وحسن التصرف مع الآخرين، ولكن ماذا يحدث إذا تخلى الإنسان عن التصرف وفق عقله الواعي الذي يدعوه إلى الحذر والتوقف قبل أن يفعل ما يندم عليه، بسبب أنه ما نظر إلى النتائج المترتبة عليه عندما سار وفق هذا التصرف الانفعالي غير المدروس؟
بلا شك أن الإنسان تتحكم فيه مجموعة من القوى الفكرية والغضبية وغيرها ويقع بينها التنازع ويتباين كذلك بينها الاتجاه نحو الفعل وردة الفعل، فانظر إلى الإنسان عندما يقع تحت نير الظروف الحياتية الصعبة وتعقد المشهد المعيشي فإنه يلقي بظلاله الثقيلة على النفس ويستنزف الطاقة النفسية عنده، ولكن هذا لا يعني التخلي عن الإمساك بدفة الأمور تحت سلطة العقل الناضج الرشيد، والاتجاه نحو التصرف بنفس مرهقة ومتعبة فيصدر منها الكلمات الجارحة والقاسية والتصرفات غير اللائقة وغير المدروسة، ولعلنا لو نظرنا إلى أحد أهم أسباب المشاكل الزوجية والأسرية والاجتماعية هو انسحاب واقعنا المتعب بسبب ما نواجهه من صعاب ومشاكل ونجعله حاضرا في تعاملنا مع من حولنا دون أن يكون لهم دخل في تشكله في نفوسنا، فتكون تصرفاتنا حينئذ غير واقعية ومؤلمة وغير مبررة بالنسبة للآخر ولا يمكنه - بأي حال - تقبل هذا الواقع المعيشي بنحو الاستمرار، ولا يتقبل ما نقدمه من أعذار واهية بأننا نعيش واقعا صعبا ومرهقا وعلى من حولنا تحمل كل ما يصدر منا من كلمات طائشة وتصرفات جنونية!!
والحوادث الإجرامية منشؤها الاستجابة إلى استفزاز أو إساءة الآخر والشعور بالإهانة والانتقاص، فيتحرك نحو الحفاظ على كرامته - كما يتصور - من خلال مقابلة الاعتداء بروح همجية متهورة؛ مما يؤدي إلى تطور الموقف إلى الاشتباك بالأيادي، وبعدها تكون النهاية المؤلمة، وبالطبع إذا كان الشخص حليما يضبط أعصابه في المواقف الصعبة، ولا يستجيب للروح الانتقامية، فإنه سيحسب ألف ألف حساب لخطواته وردات فعله، بما يجنبه التهور المؤدي إلى الصراخ وأفعال غير عقلائية لا ينفع معها الندم أبدا، وهنا تظهر أهمية التربية منذ الصغر على التعامل بهدوء وحكمة في نقاشاتنا وتصرفاتنا، ومتى ما وجد الوالدان تعاملا عدوانيا عند ابنهما فعليهما أن ينبهاه على ما ارتكبه من خطأ، ويساعدانه على التصرف اللائق والصحيح ويدعوانه إلى التصحيح إن فعل ذلك، وبذلك ينجو المجتمع من ضيق النفوس عند البعض فيركن إلى التخبط في تصرفاته ويقدم شهوة الانتقام أو ضعفه أمام الاستفزاز والإهانة، فينجر إلى الأفعال كالمجنون الذي لا يدرك ما يفعل ولا يبصر ما أمامه!!
الشخص الحليم يتصف بتحكم العقل الواعي في تحركاته وكلماته وقراراته فلا يتعجل ولا يتهور، وينظر في عواقب الأمور ويوازن بين النقاط الإيجابية والسلبية لما سيقدم عليه، وبهذا الخلق الرفيع «الحلم» يستر عورته المعنوية من خلال إبقاء مارد الغضب في قمقمه، ويقدم عقله الناضج ويطفئ نير المشاحنات والخصومات، فعند الإساءة - مثلا - يتبين ما يحمله الفرد من حكمة وضبط نفسي بما يظهر منه من ردات أفعال، فهناك من يغلب الحكمة وخلق التسامح والصفح، فيتجاوز الموقف المسيء وكأنه لم يسمع شيئا من الألفاظ البذيئة، بينما هناك من ينجر سريعا إلى ساحة النزال الاجتماعي، ولا يتأخر في مقابلة الإساءة بمثلها، بما يدخله في دهاليز نفق الخلافات والعصبيات وما يستتبعها من خسائر فادحة.
وقد ينظر البعض إلى خلق الحلة وضبط الانفعال والتحكم في تصرفاته وفق العقل الواعي بأنه ضعف ويهدر كرامة الشخص ويسقطه من أعين الناس وبالتالي سيتعاملون معه بمنطق الاستعلاء، وهذا وهم فالحلم يعني التصالح مع النفس وتجنب حالات التوتر النفسي المستمر، كما أنه يحافظ على وقع شخصيته القوية من خلال السير على خطى الاتزان وتجنب التصرف كالثيران الهائجة.
ورد عن أمير المؤمنين ؛ الحلم غطاء ساتر» «شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 69».?