آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 2:16 م

ارمِ نظارتيك وعكازتيك يا عبد الخالق!

سالم الأصيل

كان أول تعارف بفقيد القطيف الكبير المرحوم عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي باتصال هاتفي، طلبتُ من خلاله تنسيق زيارة لصغار برنامجٍ صيفيٍّ بقصد عيادة مرضى مشفى القطيف المركزي، وهو المكان الذي كان يعمل فيه منسِّقًا، كان صوته الجهوري في ذلك الاتصال الأول روحًا، روحًا نُفخت في هيئة صوت، تنقلها ذبذبات النفس العظيمة، مُرحِّبًا، مُمهِّدًا الطريق قبل سلوكه بنبرة صوته وابتسامته التي نقلتها نبضات قلبه الكبير.

جُعل بيننا وبينه موعدًا، لم نخلفه، قصد الأطفال وصاحبهم المشفى في الموعد المحدد، فوجدوا في استقبالهم صاحب الصوت إياه هاشًّا باشًّا: أهلاً وسهلاً ومرحبًا، متعكزًا عكازتيه، ورغم ثقل حركته، إلا أنه بدا خفيفًا كريح هابّة، وإن قيل في الوصف المحكيّ: ”هابّ رِيح“ للشخص النشيط الأمين الصادق في أداء عمله، فهذا مثال أمامك لن تتعداه كلما ذُكرت هبّة الريح، ولمّا كانت صدمة المرة الأولى التي أقابله فيها، أشفقت عليه من تعب الحركة الكثيرة، والذهاب والمجيء في ممرات المشفى الطويلة، فطلبتُ إليه لمّا خفت تعبه: استريح أستاذ. معنا الممرضة تدلنا على الطريق! قوبل الطلب بابتسامة عريضة وقول: لا أبدًا بالعكس. أنا هكذا أرتاح! بشوفتكم! مشفوعة بكلمات تواضع لم يقبلها تلميذ صغير من أستاذ كبير.

فلم يكن إلا ما أراد، وكان خير رفيق، وخير قائد لغرف المرضى الذين يعرفونه - كما بدا - جيًّدًا. يحتوي بحديثه المرضى والأطفال معًا، يلاطف هذا، ويمازح ذاك. فلا يُخلّف وراءه إلا الابتسامة التي ابتدأتها سحر ابتسامته الأولى، وسماحة طلعة محيّاه، ولسانه العذب، وصوته المُرحِّب!

كان ذلك أول الصلة، قبل سنوات بعيدة، قبل التعرف إليه كاتبًا مؤرِخًا، أديبًا، والتعرف إليه أكثر من خلال محاضراته، وكتبه، وأبحاثه ومقالاته الأدبية والتاريخية. تلك التي تشبه القصائد في سحر بيانها، وحلاوة ألفاظها، والطلاوة التي تكسوها. في الوقت الذي تغلب على كثير من نظيراتها من الدراسات والأبحاث - لا سيما التاريخية - بجفاف اللفظ باعتبار المقام البحثي العلمي الجاد السائد. الأمر الذي كان يدفعك لالتهام ما كتبه كقطع حلوى نهمًا مسترسلاً متسائلاً: كم تحب صنعتك؟ كم يسكنك التاريخ ليكون بهذه الروح الحية التي تجعل من طين التاريخ كهيئة الطير تنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله؟ وكم أنت رشيق أنيق على الورق، كما أنت في سعيك الدؤوب خلف كل ما هو من أجل التاريخ المنسيّ والمطمور تحت ركام التاريخ والجغرافيا المهملة. أين العكازتان؟ لا أراهما إلا تتعكّزان على كاهلك يا كاهل البحرين القديم!

بضاعتكم رُدّت إليكم. هكذا يقول العرب تعبيرًا عن معنى لطيف مفاده أن ما يقدّمه الإنسان - إن خيرًا أو شرًّا - يُردّ إليه. وكأنها سُنّة من سنن الحياة، أو ناموس من نواميس الكون. ولعل أصل هذه اللفظة في مبناها - دون انطباق المعنى في السياق القرآني - قول إخوة النبي يوسف في قصتهم الشهيرة المذكورة في القرآن الكريم.

هكذا كان حينما قال الدكتور غازي القصيبي في عيادته الشاعر العربي الكبير نزار قباني في أواخر حياته، رادًّا لهذا الأخير بضاعته التي قدّمها مزجاة بين يدي عميد الأدب العربي طه حسين ذات يوم؛ فقال القصيبي محاكيًا لنزار الذي كان يتعكز عكازة تعينه على القيام:

«ارمِ عكازتيك وحدك تمشي
إنما نحن جوقة العرجان»

ثم بعد سنوات، أسأل الجنبي، وبكل جوارحه يجيب، ويسألني هو ذات يوم من عام انصرم، عن موقع أثري في بلدة الجارودية هدفًا لبحثه، فيصفها هاتفيًّا - حرصًا على الدقة - كأنه يراها رأي العين حاضرًا، فأطلب المهلة رغم ادّعاء المعرفة، حرصًا على ما كان عليه أحرص، الدقة في السؤال والجواب.

ثم، نبأ يروح، وخبر يأتي، وأحاديث عن معاناة مرضيّة لم تمهله ولم تمهلنا طويلاً مقدار عيادة أو مهاتفة مخافة الإثقال، حتى جاء الأمر المحتوم، أغمض عبد الخالق إغماضته الأخيرة، فنخاطب عينيك المغمضتين نعيًا - ويا أسفي - لا نعتًا:

وإذ تذكرنا آنفًا البيت/ الغصن فلا بُدّ أن نذكر القصيدة/ الشجرة الأصل التي استنهض نزار فيها عميد الأدب العربي:

«ضوء عينيك.. أم حوارُ المَرايا
أم هما طائران يحترقان؟

هل عيونُ الأديب نهورُ لهيبٍ
أم عيونُ الأديبِ نهرُ أغاني؟

آهِ يا سيّدي الذي جعل اللّيل
نهارًا والأرض كالمهرجانِ

ارمِ نظارتيك كي أتملّى
كيف تبكي شواطئ المرجانِ

ارمِ نظارتيكَ .. ما أنت أعمى
إنما نحنُ جوقةُ العميانِ»

ما أليق هاتين اللؤلؤتين بابن خليج القطيف ونجل نخيلها، سليل عبد القيس الأديب والمؤرخ الشاعر عبد الخالق الجنبي..!

ارم نظارتيك يا أخانا، وارم عكازتيك، فقد آن لك أن تستريح!