مفاضلة بين الرصيد الدنيوي والأخروي
هناك قراءة خاطئة وواهمة لتحقيق معيار التمايز وترتيب الطبقات المتفاضلة بين الناس والدائرة في أذهان أصحاب النظرة المادية، وهي الركون إلى الجانب المالي ومقدار المدخرات المالية التي يمتلكها الفرد، وبناء عليه يمكن تقدير مكانته وكيفية التعامل معه، وقد ذكرها القرآن الكريم في مواضع عدة ومن أهمها عند الإشارة إلى قصة قارون وثروته من الخزائن المملوءة بالذهب، فكان هناك قسم من الناس يتمنون الحصول على شيء مشابه لتلك الثروة ولو بنسب أقل؛ ليحصلوا على المكانة الاجتماعية والجاه ومظاهر البذخ والثراء والإعجاب والإعلاء في أعين الناس، قال تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى? قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ ﴿القصص الآية 79﴾ .
وهذا يحكي عن هذه النظرة المعيارية للتفاضل والقائمة على مقدار ما يمتلكه المرء من أموال وعقارات، وسبب جاذبيتها وساحريتها عند الإنسان هي وجود غريزة مودعة عنده تسمى بغريزة حب المال، ومنها ينطلق الفرد إلى رسم معالم حياته وعلاقاته وأهدافه بناء على قدرته ومكنته من اشتراء كل شيء يريده، وهذا ما يحقق له السعادة في مفهومه وراحة باله، فالحرمان والضيق في المعيشة له آثاره المؤلمة على الفرد فينغص عليه حياته ويسلبه الاستقرار والهدوء النفسي وهذا ما لا يرغب فيه، فكلما دار في مخيلته صورة الإنسان البائس وما يعانيه بسبب عدم القدرة على تأمين احتياجاته المادية وقصور يده عن توفير الحياة الكريمة والدراسة المناسبة لأفراد أسرته أصابه الامتعاض.
وهذه النظرة في المادية للتفريق بين الناس ونسبة مستوياتهم خاطئة، وذلك أن الإنسان مهما أوتي من خيرات وثروات الدنيا الفانية فإن الرحيل منها هو المآل والمنتهى، فلن يكون معه من تلك الثروات معين ولا ناصر إن أنزل في حفر المقابر، فهل ترى من تمايز بين من ماتوا ويظهر لك الأثرياء وتميزهم عن البسطاء في معيشتهم؟!
وأما أنها واهمة فإن المال قد يحقق للمرء الرفاهية ورغد العيش ولكنه لا يجلب السعادة الحقيقية، وذلك أن الله تعالى جعل من سننه في عباده أن لا تصفوا مشارب الدنيا لأحد فهي مشوبة بالألم والضراء والضيق والتوتر النفسي في بعض محطاتها، وإنما السعادة الحقيقية ذاتية تنبع من الفرد بما يحياه من تصالح مع نفسه ورضا بما قسم الله تعالى له وطمأنينة بأن أموره ووزقه مكفول له في كل أحواله، وبناء على ذلك فهو مستشعر للطمأنينة والهدوء النفسي في كل أحواله حتى الصعب وما يمر به من مشاكل وهموم، فيتعامل معها وفق ما يتناسب معها من حلول ممكنة ويتكيف مع ما لا يمكن زحزحته وتغييره، وهذا ما يفسر لنا ما نجده من راحة بال ينعم بها فقير يعيش البساطة، بينما نرى الهموم تتراكم على بعض أصحاب الثروة بسبب القلق القاتل من تناقص ممتلكاته وأرباحه، بخلاف ما يصاب به من آفات أخلاقية كالبخل الشديد والأنانية والتبلد الوجداني تجاه آلام ومصائب الآخرين، كما أنه يصاب بالزهو والتبطر وحب تسليط الأضواء عليه فيكون محط اهتمام الناس ومورد حديثهم، كما أنه يكون في أول الأسماء وصدارة المجالس في المناسبات الاجتماعية، وهذه النظرة التفاضلية بحسب الرصيد المالي في الدنيا موجودة في وجدان الكثير، وكما قال الشاعر:
إِنَّ الدَّراهِمَ فِي المَواطِنِ كُلّها
تَكْسُو الرِّجَالَ مَهابَةً وجَلالا
فَهْيَ اللِّسانُ لِمنْ أَرادَ فَصاحةً
وَهْيَ السِّلاحُ لِمَنْ أَرادَ قِتالا.
وأما النظرة الواقعية القائمة على الارتباط بين الدنيا والآخرة فإن الموت ما هو إلا قنطرة ومرحلة عبور للحياة الأبدية، وهذه الدنيا مضمار وميدان يتسابق فيه الناس بما يقدمونه من أعمال تمتلئ بها صحائف أعمالهم، ففي محكمة العدالة الإلهية في يوم القيامة وعندما تنصب موازين الحساب تبان المكانة الحقيقية للإنسان، فهناك من يتوج بأعلى الدرجات في جنان الرحمن بما قدم وعمل من الصالحات والمعروف والمعاملة الحسنة مع الآخرين، يتوج من كان لسانه ينطق بالصدق وما قارب المحرمات من غيبة وفتنة وغيرها، ويتوج هناك أصحاب القلوب النقية ممن سعوا في سبيل قضاء حوائج الناس وتخفيف أعباء الحياة عنهم وما يواجهونه من مشكلات مادية وغيرها.
ورد عن الإمام الهادي : النّاسُ في الدُّنيا بالأموال، وفي الآخرَةِ بِالأعمال» «نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص 139».