آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

أسرار نزعة الفضفضة الذاتية، برؤية نفسية.. حدثٌ وحديثٌ ”65“

عبد الله أمان

لم يَكُن ناتجُ مُحصِّلةِ نزعةِ ”الفَضْفَضَةِ“ النفسية الذاتية، القائمة على أُسلوبِ التنفِيسِ المُريحِ، مَع خَلَوةِ ”مُنَاغَاة“ النفسِ المُثقلةِ بالهَواجِس والهمُوم لَحظةً، بمَسِيسِ البَوحِ الذاتي - مع المُقرّبين مِن خَاصَّة الفرد - المُبادِر عَفويّةً، بإظهارِ عمّا اختَلج، واحتَبس، وترَاكم احتقانًا، في صَميم قرار دَواخلِ نفسِه يومًا، مَثارًا للقلق؛ أو حَافزًا مُماثِلًا لومِيضِ تردّد فَرطِ الاضطرابِ النفسيين؛ بَل على العكس مِن ذلك تمامًا، فنزعة البوحِ المبادرِة، هي بمثابةِ إفشاءٍ ذَاتيٍّ عَلنيٍّ، تُرخِي رَغبةً ذاتيةً، بطرفِ العِنانِ النفسي المَشدُود طَوعًا، إلى جادّةَ أنفاسِ التحرِيرِ والتخّفِيفِ المُبادِرة المَحسُوسة، مِن شِدّة مَكبوتاتِ، وحِدّةِ مَضغوطاتِ آلَامِ وَطأةِ وَخزِ التوتّرِ النفسي؛ ومِثلهُما: مُعاناةِ، وعَنتِ، ومُقاساةِ الكَبتِ المَحمومَةِ، الّتي شَغلت مُجتمعَاتٍ، حَيزًا مُعتلًا في دَواخل أعماقِ سَريرةِ النفسِ المُتعبةِ… فبَاتَت نَوباتُ الانزعاجِ؛ وأمسَت هَبّاتُ الكَدرِ المُلازمَتين، تُراوِدُ وِجدانَ ومِزاجَ الفردِ المُنهَكِ المُضنَى، كُلّما مَرّ ولَفّ، لِهُنيهةٍ خاطفةٍ، شريطُ مَكنونِ خَواطِر الذكرياتِ الجيّاشةِ المُؤلمةِ، في مَخزونِ طَيّ سِجلّ ذاكرةِ الفردِ النشطةِ الحسّاسةِ!

ولَعلّ نزعةَ الفضفّضةِ الذاتيةِ النفسيةِ مُرتبطةٌ بمنحَى سُلوكي ذاتي، استوجَب على المُحلّلِين النفسانِيين، والمُعالِجين المُمارسين، وكذا المُهتمّين بأمُور الأبحاثِ الأكاديميةِ والدراساتِ النفسيةِ السلوكيةِ، باحتِواء، وفَهم، وتَحليل، ودِراسة، ومُتابعة طبيعة تلك النزعةِ النفسيةِ السلبيةِ المُؤرّقةِ، مَع تطوّراتِ وتحوّلاتِ مُتطلّباتِ العصر المعيشية الحيوية الضاغطة؛ خاصةً عِندما تتفاقَم أمورُها، وتبلُغ أقصَى ذُروتِها عِند الفرد المُبتلى… تمامًا، كَشكَوى نِدّه المريض جَسديًا الذي يَسعى للتداوي، عندما يشعُر باختلالٍ عُضويٍّ مُقلِقٍ… ورُبّما تكون مُشكلةُ ”المريضِ النفسي القائمة“ أكثر تَعقيدًا، وأشدّ وَطأةً؛ لارتباطِها بسلسةٍ مُثقلةٍ مِن المَشاعِر، والأفكَار، ومُختلف الهَواجِس النفسية المُقلِقة المُتسبّبة لِزامًا، في إِحدَاث وتَصعِيد باقةٍ نفسيةٍ مُتلازمةٍ مِن هَبّاتِ التوتّر؛ وفَوراتِ القلق والانزعاج... وربما تتطوّر حالةُ المريضِ النفسية لَاحِقًا، ليسلُك مَنحًى مُعقّدًا، قد يُؤدّي به إلى وُلُوج مُنحنياتٍ خَطيرةٍ، مِن فَورةِ القلقِ المُستحوِذة المُزمِنة؛ أو تُوصِله حَالتة الشاخِصة إلى مَشارفَ أطوارِ الهَلوسةِ المَمقُوتةِ…! وإلى مَن يَقوم ويَهتمّ بأمُور المُعالجةِ النفسيةِ، أن يكون مُسلّحًا بمَهاراتِ التدريبِ المَيداني المُؤهِّل؛ ومُدجّجًا بفنيّاتِ الخِبرة العِلاجية الأكادِيمية الكافِية، لاحتواء وإشعار المريض بالراحة والطُمأنينة؛ واستِئمان خُصوصِيةِ أفكارِه وأسرارِه… وهُناك مِن الفنيات، والمهارات، والخبرات العِلاجية المُماثلة، مَا تُمكِّن وتُوهِّل الطببب المُعالِج مِن مُتابعةِ حالةِ المريض النفسية، بانتهاجِ أحدثِ الوسائلَ، والأساليبَ، والتدابيرَ العلاجية الّلازمة؛ وكذلك التدخُّل الدوائي، إذا تطلّب واقع الحالة النفسية للمريض ذلك…!

وإنّه مِن الطريفِ، الشائعِ جِدّا، والمَعروفِ المَألوفِ عُرفًا مُتناقِلًا، أنّ الشخصَ ”المَهمومَ“ بناتجِ مُثيرات ذائقتهِ المُثقلةِ المُتأزّمةِ، عادةً مَا يُفضفض إلى أحدٍ مِن الناس، مِمّن يثِق بهم؛ ويأنَس حُضورَهم مِن خاصّةِ جَمع الأقارِب والأصدقَاء، عَن طريقِ التحدّثِ النشِط، ورُبّما البوح الذاتي المُباشِر، والمُكاشَفة الصريحة، والتفريغ الشفوي… رغبةً مُلحّةً ذاتيةً، في اصطِياد مَسحةِ التخفيف مِن حِدّة الضغوط النفسية المُتوتّرة، عن طريق المُواجهةِ المُباشرةِ؛ وانتهاجِ رغبةِ تعزيزِ الثقةِ بالنفسِ…! ولعلّ الجديدَ السديدَ في أمرِ الفضفضةِ الذاتيةِ، مَا قرأته ذَات مرّةٍ عَن تقمّصِ وتجرِيبِ ومَسيرةٍ نفسيةٍ مُماثلةٍ للبوح الشفوي الماثل، ألَا وهي «التنفيس والترفيه العِلاجي، عَن طريقِ بوابةِ الكتابةِ التحريريةِ - بشكلٍ فَردِي، أو جَماعِي، وتفريغ مَخزون التراكُمات والضغُوط النفسية، حيث يَتمّ فيها التمازُج اليقِظ مَا بين العقل والروح والجسد، فيؤدّي إلى وَقفِ نزيفِ الروحِ، وعِلاجِها» *… «وقد توصّل بنجاحٍ فريقٌ مِن الباحثين والمُتخصّصِين النفسانيين، بتجاربهم الميدانية، بقيادة العالم النفسي الأمريكي د. جِيمس بِيكر، في عام 1986م، حيث أُخضِع عَددٌ مِن المُشاركين المَعنيين في ”كورس“ الكتابة العلاجية، لِمدّة ستّةِ أشهرٍ، بشكلٍ يَومِي، فهي نوعٌ مِن الاستشفاء المُوجّه، وامتصاصِ الصدماتِ النفسيةِ؛ للتخفِيفِ المرغُوب فيه مِن حِدّة المَشاعر المُوجعةِ المُتجدّدةِ، حيث يتمّ مِن خِلالها تفريغ آلاَم المَشاعر المُؤرّقة، بالبوح والفضفضة الذاتية الكتابية، عن مُجملِ الأحداثِ والمَواقفِ ”السلبيةِ والإيجابيةِ“ حيث أظهرت النتائج وَقتئذٍ، مدَى ثأثير تلك التجربةِ النفسيةِ الميدانيةِ، على مَوجات الدماغ؛ وبالتالي إحراز نِتاحِ التحسّن الإيجابي الكبير في نفسيةِ المُشاركين، وكَذا صِحّتِهم الجسدية، وُصُولًا إلى سَقفِ فنياتِ الكتابةِ الإبداعيةِ لَاحقًا، وتعزيزِ جُذورِ مَلَكةِ سَكّ الأفكار…!» *

هذا، ومِمّا لَا يَخطُر على بال الكثيرين مٍن الناس للَحظةٍ مُتأنيةٍ «فيمَا يَخصّ نزعةُ الفضفضةِ، والتعجّلِ بالبوحِ الذاتي المُندفعِ مَع الآخرين، خاصّةً إذا لم يَختَر ويختبِر الشخص المُبتلى المَعنِي، بعنايةٍ واهتمامٍ، خُلق وطَبع نظيرِه ”المُستمع للفضفضة“ المَوثوق افتراضيًا، مِمّن لَا يقوَى على كَتم السر؛ عِندئذٍ يكون مَصيرُ مُحصِّلةِ الكِتمانِ لَاحقًا، أجدَى بكثيرٍ مِن نَفرةِ البوحِ المُتسرّعِ المُنفلتِ، وربما تكون نتائجُه وَخِيمةً وَبيلةً… وقد تزيد الطينَ بَلّةً؛ وقد يَبقى صُندُوقُ البوحِ المُؤتَمَنِ مَفتوحًا تِباعًا، ويُصاغُ ريعُه المكشُوف لَاحقًا، في مُحكمِ قَوالبَ ووَثائقَ مُستمسَكةٍ فاضِحة، قد يَستخدمُها سَامِعُها: الشخص المِذياع المِكثار، غير المؤتمن، لأيّ سَببٍ كان، في ذُروةِ مَواقفَ انتقاميةٍ حَرجةٍ فاضحةٍ؛ قد تُشعِل، وتَزيد، وتُجدّد مِن توهّج فَتِيل ألم المُعاناةِ النفسيةِ، أضعافًا مُضاعفةً، وحِينئذٍ لَا ينفعُ الندَم، ولَا يُجدِي العتَب» *

هذا، ويَحلُو لي ذِكرًا باستِلطاف واستِحسان، في سِياقِ سُطور هذه الخاطرة المُكاشِفة، أنْ أُدشّن وأُسَمّي بتَواضعٍ جَمٍ، عبارة مُصطلحَ ”الفضفضة الطبيعية الحُرّة“ مِن قائمِ وَاقعِ تَجربتِي الشخصيةِ، في لَفيفِ زخمِ التواصلِ الاجتماعي، مَع أشخاصٍ مِن ألطفِ المعارفِ، ومِن ثقافاتِ شتّى؛ وفي نظري، هذه حالةٌ نفسيةٌ طبيعيةٌ، يأنَسُ ويُلاطِفُ فيها الفرد ”المُثقّف“ نِدّه الشخص المُتحدّث أمامَه - بلَباقةٍ ولِياقةٍ - والأقرب إلى مَخزون سِجلّ ثفافتِه العامة، ولَا عَلاقة لها بالخفيف مِن مُحتوى المواقف السلبية المؤلمة… وقد تَجمعهُما مَواقفٌ عَابرةٌ؛ أو تَضمّهُما لِقاءٌاتٌ خَاطفةٌ، يُبادِر اجتهادًا - في أبهَى لحظاتِها الجاذبة - الإثنان مَعًا، في تَبادُل وتَجاذُب أطرافٍ مُتكافئةٍ مِن نسقَ تدفّق سَلاسلَ الأفكَارٍ المُتناغِمةِ المُتناسِقةِ، أشبه مَا تكُون بجذبِ وتناغُمِ حَرَاكِ أدوارِ حَبكةِ الفضفضةِ الذاتيةِ الوِدّية المُتناميةِ… فلَا قُيود تربطُها، ولَا حُدود تحوطُها؛ ولَا كِتمان يسودُها؛ فهي أقرَب إلى نمطِ المُكاشفة الذاتية الصريحة؛ وأيسَر إلى المُواجهة النِّدِية الواضحة، حيثُ تَتخلّلهُما عَبقُ هُنيهاتٍ وَاعيةٍ مَرحةٍ مِن عَميمِ ألقِ التوافُقِ الشذِية، والاحترمِ المُتبادَل؛ وتُوآزِرهُما بُرَهٌ مُتآخيةٌ مُشتركةٌ، مِن حَميمِ مَراقِي الاستمتاعِ الفِكريةِ الجاذِبةِ…!

* يوتيوب- برنامج صباح الخير يا عرب- مقابلة مع الروائية، ومدرّبة الحياة/ أمل حامد "بتصرّف"
* توتيوب- كيف تعالج نفسك بالكتابة- المدربة نفسها "بتصرف"
* يوتيوب- مصطفى الآغا- من أشد أنواع الظلم في هذه الحياة القاسية، أن يلعب الظالم دور الضحية "بتصرف"