عن مرور عقدي الأول في الكتابة
إعادة تكوين الإنسان بالقراءة والكتابة
عقرب الزمن يُشير ليناير 2014، أصابعي تطبع بريد صحيفة الشرق، لأرسل أول مقال لي «النقد فن الحكمة والتخبط». كان الأستاذ خالد بن عبدالله بوعلي، رئيس تحرير صحيفة الشرق السعودية منذ 2013، فظن البعض أن تلاقي النسب يعني دخولي الصحيفة من بوابة الشخصيات الهامة، التي تعبر دون تفتيش وتُقبل دون اختبار أو حتى مُقابلة، وهذه من أظرف الظنون التي واجهتها في أول خطوة نحو بوابة الثقافة. ضحكت وتعجبت! أجبتهم: والله لم أكن أعرفه ولا أدري إن كان يعرفني أم لا. نُشر المقال، وبدأت القصة، وصار لازمًا أن أقرأ وأكتب لأنمو معرفيًا ولغويًا. فماذا علمتني هذه السنوات العشر؟
* القراءة هي المصدر الموسوعي، فالناس كرماء ولكن المعرفة أكبر من الإنسان الواحد، أو المجتمع الواحد، أو المعتقد الواحد، أو غيرها، ناهيك عن الخصوصية التي يقصدها الإنسان في كثير من حاجاته، لهذا يحتاج الإنسان لمصدر شامل يُحقق به حاجاته المتنوعة كالقراءة، فتغنيه عن كثير من الاستشارات الفكرية، الثقافية، الروحية، الحياتية الأسرية، الاقتصادية، العلمية وغيرها، وهنا يمكن ملاحظة انخفاض استشارة القُراء عن غيرهم، لا لشئ سوى لأنهم يبحثون ويجربون ويتحققون بأنفسهم.
* القراءة هي ملاذ الأزمات، فكما يلجأ المؤمن للدعاء عندما تضيق به السبل، يلجأ القارئ للكتاب عندما تضيق به السبل أيضًا، ليحمي نفسه من لغو الكلام أو طيش الغضب أو فلتات اللسان وانفلات السلوك، فخيار الكتاب في تلك اللحظة العصيبة يعمل عمل المُخدر، يُخمد الطاقة الثورية العدوانية أو حتى الدفاعية، ويحولها لحركة ذهنية هائلة الإيجابية، فلا يؤذي نفسه وجسده، كما لا يزيد زج السهام المؤذية لمن حوله، فهو يختار بحرًا ساكنًا لتفريغ شحناته السلبية، قد يقرأ في تلك اللحظة عن تحديات ومعاناة المفكرين والفلاسفة فتهون عليه معاناته، أو يقرأ تجارب إنسانية جديرة فيستقر انفعاله بين حدين فاصلين، يعتدل حكمه ويرى بعقله. وقد يعود للكتب النفسية ليُمهر قدراته على التعامل مع مختلف النفسيات والشخصيات، فإذا استشاط سلوك ابنه الطفل أو المراهق قرأ عن خصائص النمو للأطفال والمراهقين وأساليب التربية الحديثة، وربما يقرأ الشعر فيبكي على حاله، يبكي دون إيذاء أحد، وقد يقرأ ابتهالًا صافيًا، فيتقوى من الله وتهدأ روحه. هكذا يحمي نفسه من التسرع والابتذال والانفعال والانتحار وغيرها من الانهيارات المحتملة والواردة في حالات كثيرة، لأن الكتاب ملاذ قوي وهادئ بطبعه.
* تُمرن القراءة ممارسيها على الصبر، فالأفكار المقروءة تتسرب للذات بهدوء، يتعالق فيها النظر للحروف بالتأمل في المعنى الذي يسكن النص، وهكذا تحدث عملية التأثير وتنعكس على الأفكار والممارسات، يتحقق ذلك في زمن كافٍ للتغيير، تتطور فيه ضمنيًا ملكة الصبر، من ناحية أخرى، يحتاج الكتاب لتتم قراءته وقتًا، الشيء الذي يتطلب صبرًا من نوع آخر، وهنا يمكن اعتبار كلا القراءة والكتابة من تمارين الصبر.
* توسع القراءة مدارك فاعلها بشكل فائق لأنها ترفع من مهارات التفكير العليا؛ كالنقد والتحليل والاستدلال وتغيير وجهات النظر، توليد وخلق أفكار جديدة، رفع مهارات التفكير الإبداعي والتخيلي، والاستنتاج، لهذا نلمس الفرق في الحوار مع القارئ وغيره، يأتي هذا في سياق التوصيف لسمات الشخصية القارئة وما تُسقطه القراءة على فاعلها، كأي ممارسة أخرى لفاعل آخر.
* ترسيخ القيّم، يحدث ذلك بفعل تبديل المفاهيم القديمة بأخرى حديثة، أواستحداث مفاهيم جديدة وزرعها في مناطق فارغة، لهذا تتشكل شخصية القارئ قوية بطبيعة بنائها الفكري، بينما يتفاوت الأمر بين الكُتاب، نظرًا لتفاوت قراءاتهم، يبرز ذلك في اللغة والممارسة، فالقراءة والكتابة ليست مجرد حدث عابر، بل هي مؤثرة في تشكيل وتطوير الإنسان على مختلف الأصعدة، ولهذا تؤثر في الشخصية ككل. ففي تجربتي الشخصية، كمثال وليس حصر؛ ألمس تبديل «إطلاق الأحكام» ب «عدم اليقين» لأن الإنسان كلما عرف؛ عرف أنه لايعرف، فكيف يحكم على الآخرين وهو لا يمتلك العلم اليقين، ناهيك أن الإنسان بطبيعته كائن معقد، فكيف يحكم كائنًا مُعقدًا وبسيطًا على كائن آخر لعله أكثر تعقيدًا!
* تأهيل ودعم الأخلاقيات الإنسانية، كالتسامح؛ قيمة عليا، تتواجد لدى الناس بنسب متفاوتة، وأجد أنها تتمدد بداخلي بفعل القراءة، فالسيّر الذاتية والأعمال السردية تكشف لنا عن الطبيعة البشرية عبر الأحداث والوقائع، ثم يأتي علم النفس الاجتماعي ليفسرها، بهذا انكشفت عن عيني غشاوة الجهل ببعض الأشياء، فتغير موقفي بعد استيعابي الجديد بشيء من التسامح مع فعل الإنسان أيًا كان.
أما عن ما بنته الكتابة؛ فأبدأها بقول الشاعر الكبير محمد العلي:
هل تعرف مفردة يسكن الشعر في بهوها الرحب مثل الوجع؟
الوجع! تلك مفردة عاهرة
سرقت كل ما في الحقول من النضج والزهو والأسر
ثم تشظت إلى كل قلب
الوجع ما نراه على الأرض
هل في السماء وجع؟
بهذه الشعرية المؤثرة يحول الشاعر العارف حالة الوجع في الحياة من كونها معنى يتشكل في حياة الإنسان على هيئات متعددة إلى نص مكتوب، وهو بذلك يعالج «الوجع» معالجة بناءة بأسمى الوسائل؛ الكتابة، فتخفف الكتابة على الإنسان هذا الوجع، وهذا وجه من وجوه كتابة الشعر. وفي سياق التجربة الشخصية، فأنا أمارسها باعتباري كائنًا طبيعيًا يتشاعر مع ما يحدث حوله، فلعلي بهذا امسح جرحًا غائرًا أو أشفُّ عن خفقة معنى توارت بين جدران المادة الصلبة، أو اسمع نَفَساً يغرق وأنقذه في اللحظة الأخيرة، وهذا ما فعلته مع نفسي في قصيدة «مدينة العُمال» التي كشفتُ فيها عن مشاعر عاملة تُستنزف ساعاتها اليومية في منطقة عمل لا تحبه. اقتبس منها:
عندما يبتهج المساء
يفتح المقهى باب القصيدة
يدلف سماعو الشعر
يتأهب سادة النثر ويتبعهم السُراد
ومن بعيد يجلس المثقف الكبير يدندن:
«لا شيء يعجبني»
أهز تنهيدة نحوه:
أنا أيضًا
وظيفتي لا تعجبني.
خرجت من كتابة هذا النص، بعافية بعد شعوري بأنني انتقمت من الوقت المهدور بنصٍ قد لا تتكرر عاطفته مُستقبلًا، وفعلًا بعد أشهر قليلة انتقلت لوظيفة أخرى، ونسيتُ «مدينة العمال».
* ارتفاع مستوى المحاسبة والتدقيق الشخصي على الأقوال والأفعال، لأن الكاتب يتعلم من مواقفه بأن القارئ لايسامح السهو ولا الزلة ولايغفر الأخطاء إذا صدرت، وفي حالة الغفران فذلك لايتحقق مع الجميع، يظل هناك من يبطن بداخله مشاعرًا مأزومة ولو صمت. وهذا درس مهم يكتسبه الكاتب بتطور تجربته وتزايد مواقفه.
* الدعم النفسي والمعنوي، الذي تعود به الكتابة على الكاتب، فالكاتب بطبيعة ممارسته التعبيرية يكتب أفكاره، وقد يتلقى معارضة وانتقاد لاذع مؤذي، لكن باعتبار تنوع شريحة القراء، يحصل في الوقت ذاته على من يُقدر مادته المختلفة والمتميزة، فتعود عليه كتابته بدعمًا نفسيًا على الأغلب لم يتوقعه.
* اشغال الذهن بشؤون الكتابة، يملئ حياة الإنسان بالمعنى القيّم، ويبعده عما لا طائل منه من الممارسات الأخرى، وهذا بشأنه أن ينقل الإنسان من مستوى لآخر بلاشك، فالهموم والاهتمامات لاتعد كما السابق، ومايمثل قيمة للكاتب على الأغلب ليس بتلك القيمة لغيره، وهكذا ينمو الإنسان ويتسامى في أطوار جديدة عبر استمرارية القراءة والكتابة.
لم ينتهي الحديث عن عوائد القراءة والكتابة، لكن العقد الأول من كتابتي شارف على الانتهاء، لأخطو للأمام، أُدشن عقدي الثاني بحلول يناير 2024 بهذا المقال، قائلة: في القراءة حياة وفي الكتابة حياة أخرى، وهكذا استمد طاقة صحية وقوية وبناءة لأعيش وأتنفس وأتفاعل مع الموجودات بجودة عالية، ولو مضى كل شيء يبقى الأثر.