آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

فنون الطهي من منظور ثقافي

غسان علي بوخمسين

زرت قبل أيام مع عائلتي مهرجان المأكولات البحرية في كورنيش الخبر، الذي نظمته «هيئة فنون الطهي» التابعة لوزارة الثقافة، كانت أجواء الفعالية بهيجة ومليئة بالمواقع التي تبيع المأكولات البحرية التي تناسب شتى الأذواق، صاحبتها ورش طهي للزوار، في رأيي تسهم مثل هذه الفعاليات في نشر الوعي بثقافة الطعام لدى مختلف الشعوب، ومحاولة إبراز فنون وثقافة الطعام كونها منتج ثقافي وهوية خاصة لكل شعب.

لا تنفصل ثقافات الشعوب في الطعام عن ثقافة المجتمع العامة،  فكل مجتمع يحاول تأصيل هويته بانفراده بثقافة طعامه التي تختلف عن الآخرين، وقد لا يروق طعام قوم لقوم، لكن في النهاية يبقى الطعام هو أحد خصائص المجتمع الذي يميزه عن الآخرين.

يقول الفيلسوف الفرنسي سافارين «Savarin» في كتابه فسيولوجيا التذوق «1825»: ”قل لي ماذا تأكل، أقل لك من أنت.“ ظلت هذه الكلمة، ولأكثر من قرن ونصف، تفهم على أنها ربط بين الغذاء والصحة العقلية والنفسية، بحيث تكون إعادة لمقولة: ”العقل السليم في الجسم السليم.“ لكن يمكن إعطاء المقولة بعداً جديداً حين تُربط بمفهوم الطعام كمؤشر ثقافي اجتماعي وهوية ثقافية للفرد أو المجتمع.

أجد من العجيب اهتمام الفلاسفة بأدب المطبخ من القدم، أفلاطون كان يرى - مثلاً - أن على الفيلسوف المثالي ألا ينأى بنفسه عن الأطعمة المنتشرة والمتعارف عليها ثقافيًا في محيطه، على الرغم من أن الفيلسوف يجب أن يعتبر أن الطبخ المتكرر معرفة جوفاء.

يعتبر بعض علماء الاجتماع أن «كل طعام مطبوخ ينتمي إلى ثقافة، ولذلك كما تفرد الإنسان باللغة الإبداعية على سائر الحيوانات، فإنه انفرد أيضًا بقدرته على الطبخ. بل وإن بعض المفكرين ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو إرجاع ماهية الإنسان إلى قدرته على الطبخ، فيقول جيمس بوزويل، كاتب السير الأسكتلندي في القرن ال 18:“للحيوانات ذاكرة، ومَلكة حكم، وجميع الملكات والانفعالات التي تحوزها عقولنا بدرجة معينة، ولكن ليس هناك حيوان واحد طباخ”!

لقد كان اكتشاف الإنسان القديم للنار وقدرتها على طهي الطعام، نقطة تحول كبرى في تطور الإنسان، حيث مكّنه طهي الطعام من الحصول على سعرات حرارية أكبر وعملية هضم أسهل وأسرع، مما ساعد على تطور الدماغ لديه وكبر حجمه وتضاعف قدراته، مما أسهم في تقدم الحضارة ورقيها، لهذا يعد اكتشاف الإنسان للطهي أكبر اكتشاف حققه الإنسان على مر العصور.

في هذا المقام، نحتاج إلى التفريق بين مصطلحين متعلقين بالطعام. الأول هو culinary أي ”فنون الطهي“ من الناحية العملية، وتشمل المهارات العملية والإبداع اللازم لإعداد الطعام وتقديمه، في حين أن gastronomy ويمكن ترجمتها إلى ”ثقافة الطهي“ هو مجال أوسع يستكشف الجوانب الثقافية والتاريخية والعلمية للطعام، مع التركيز على تجربة الطهي الشاملة التي تتجاوز مجرد الطهي.

علاقة الطعام بآدابه وفنونه وتاريخه مع الثقافة علاقة راسخة وواضحة لا تحتاج إلى من يوضحها. تناول الطعام عملية حياتية يمارسها جميع الأحياء، بمن فيهم الإنسان، ولكن الإنسان يقوم بهذه الممارسة بمستوى مختلف عنها، لذلك يرتقي بهذه الممارسة إلى مستوى ثقافي، وليس مجرد حشو المعدة بالطعام، لذلك نجد أن البشر وضعوا طرقاً وأساليب لإعداد الطعام وتقديمه وتزيينه والأدوات المستخدمة وطرق تناوله، بل أن الأديان جاءت بالتشريعات العديدة الناظمة لهذا الجانب المحوري في حياة الناس، ووضعت الآداب والسنن المرتبة له. ومن آثار ارتباط ثقافة الطعام بالدين، هو وجود أطباق خاصة بالمناسبات الدينية لكل شعب أو طائفة دينية تحرص على إعدادها وتناولها على نحو جماعي في تلك المناسبات، باعتبارها طقساً شعبياً ذا طابع ديني.

من علامات شيوع ثقافة الطهي حول العالم، أننا نجد كتب الطهي من أكثر الكتب مبيعاً في العالم، وقنوات الطهي التلفزيونية وفنونه تلقى رواجاً واسعاً بين المشاهدين، بل أن فنون طهي الأطباق المختلفة وطرق إعدادها وتزيينها والأدوات المستخدمة فيها، تعد من عوامل الترويج الإعلامي والثقافي والجذب السياحي للدول المختلفة، ومنافسات الطهي من المسابقات المنتشرة حول العالم، ولها جماهيرية واسعة جداً. لذلك تتسابق كثير من الدول الطامحة للنفوذ في الاهتمام بهذا الجانب الثقافي المؤثر، باعتباره أحد سبل القوى الناعمة لأي دولة تريد نشر قيمها وأفكارها.

من الكتب العربية القديمة والطريفة والغنية بالأدب والفن في الطبخ كتاب «الطبيخ» لمؤلفه محمد بن حسن البغدادي، سنة 623 هجرية أي في أواخر سنوات الدولة العباسية، فهذا الكتاب ليس مجرد دليل قديم يقدم وصفات الطعام، بل كتاب أدبي ”لذيذ“ ومزخرف بالألوان والرسومات المدهشة التي تثير الشغف بفنون العصر العباسي، بقدر ما تحرك غريزة الطعام، شارحاً فيه فنون الطعام العباسية وأنواعها بلغة شعرية متضمناً الحوامض و”السواذج“ و”القلايا“ و”النواشف“ و”الهرائس“ و”التنوريات“ و”المطجنات“ و”البوارد“، وكذلك السنبوسك والمخللات والحوليات وغيرها، وينتمي ما هو مطبوخ إلى الثقافة، في حين ينتمي كل ما هو نيء إلى الطبيعة. مما يعكس الغنى الثقافي والحضاري الذي وصلته الدولة العباسية في آداب فنون الطعام وطريقة تحضيره وتناوله وتقديمه.

في الختام، تعد ثقافة الطهي من الجوانب الثقافية المهمة للشعوب المختلفة، لذلك نجد حرص الدول على ترويج ثقافتها بمختلف عناصرها بما فيها ثقافة الطهي. لذا ينبغي لنا الالتفات لهذا الجانب المهم. فنحن ولله الحمد لدينا ثقافة غنية بمختلف عنصرها، ولكن علينا إبراز غنى هذه الثقافة وتنوعها، وأن نعمل على إبراز وإظهار الفنون والآداب المتعلقة بثقافة الطهي الموجودة لدينا من كافة مناطقنا المختلفة، لأن في ذلك وسيلة مؤثرة في الترويج الإعلامي والسياحي لبلادنا العزيزة.