في يوم اللغة العربية: صراع المؤنث والمذكر
هل نقول: حضر مدير البنك الوطني فاطمة؟ أم نقول حضرت مديرة البنك الوطني فاطمة؟
وهل نقول في رسالة للمستخدم «ذكرا أو أنثى» على شبكة الإنترنت:
”على المستخدم أو المستخدمة أن يتقدم أو تتقدم بطلبه / بطلبها على الرابط الآتي وملئ الاستمارة الخاصة بها /به“؟
أم يكفي أن نقول خطابا للجميع ”على المستخدم أن يتقدم بطلبه على الرابط الآتي وملئ الاستمارة الخاصة به“؟
وكتب أحدهم متسائلا ”نجد الأعضاء من النسوة تقول أنا عضوة. فهل هذا صحيح في اللغة. ففي مجال الطب مثلا نجد أنه يقال على المرأة أنها دكتور مساعد ولا يقال دكتورة مساعدة. فما الصواب؟“
من خلال تصفح سريع للإنترنت والمواقع المتخصصة رأيت أن الآراء في ذلك متعددة:
دعنا بداية نمر سريعا على قواعد التذكير والتأنيث الأساسية.
بداية يقرر النحاة أن ”التأنيث فرع التذكير“ ومعنى هذا أن ”الأصل في الاسم: أن يكون مذكرا“ أما التأنيث فهو طارئ عليه. وقد يكون هذا لاعتبارات عرفية اجتماعية قبل الإسلام، ودينية بعده، ولسنا هنا بصدد بحث ذلك، وقد يفسر بميل العربية إلى الإيجاز والاقتضاب.
ويقسم النحاة الاسم إلى ثلاثة أقسام، فإما مذكر أو مؤنث أو قابل للتأنيث والتذكير وهناك علامات تميز المؤنث هي التاء المربوطة في آخر الكلمة والمدة الزائدة «صفراء» والألف المقصورة «حبلى».
وهناك معياران للتذكير والتأنيث. الأول الحقيقي والمجازي والثاني اللفظي والمعنوي. فالمذكر الحقيقي هو الذكر البيولوجي «إنسان أو حيوان» وله مؤنث حقيقي من جنسه «رجل - حصان - أسد - محمد - حمزة» ويقابله المؤنث الحقيقي الذي يمكن أن يشار إليه بـ ”هذه“ سواء ظهرت عليه علامة التأنيث أم لا «زينب - فاطمة - ناهد - نعجة - فرس».
والمجازي من المذكر والمؤنث هي كلمات لا حقيقة ذكورية فيها أو أنثوية، وإنما هي كلمات جرى عرف اللغة على تذكيرها كقولك هذا «صبح - ليل - رأس وقمر» ونقول هذه «بئر - عصا - وشمس».
والمعيار الثاني هو أن يكون اللفظ دالا على التذكير والتأنيث معنى ولفظا كقولك هذا رجل «فاللفظ مذكر ومعناه كذلك» أو تقول ناقة في حال المؤنث فلفظها ومعناها دالان على التأنيث، ولكن هناك أسماء مذكرة معنى ولكنها مؤنثة لفظا كما في الاسم حمزة.
هناك من يقول إنه يجب تأنيث هذه الألقاب والمناصب، وانتصر لهذا الرأي مجمع اللغة العربية في القاهرة، وأصدر قراره في عام 1967 ”لا يجوز في ألقاب المناصب والأعمال اسما كان أو صفة أن يوصف المؤنث بالمذكر فلا يقال: فلانة أستاذ أو عضو أو رئيس أو مدير“ وعلل عباس حسن رحمه الله سبب المنع بأن إجازة وصف المؤنث بالمذكر تخالف قاعدة وجوب مطابقة النعت للمنعوت.
وخالف بعضهم وقالوا لا يجوز أن نمنع ما أجازته العرب في كلامهم، وعلل الفراء جري العرب على هذا السنن من تذكير المناصب والألقاب بقوله: لأنه إنما يكون في الرجال دون النساء أكثر ما يكون فلما احتاجوا إليه في النساء أجروه على الأكثر من موضعيه واستشهد بقول الشاعر:
فليت أميرنا وعُزلت عنا - مخضبة أناملها وكعاب
فقال أميرنا وهو يعني امرأة.
قال الفراء: فإن قال قائل: أفرأيت قول العرب: ”أميرنا امرأة، وفلانة وصيُّ بني فلان ووكيل فلان“؛ هل ترى هذا من المصروف قلت: لا، إنما ذُكِّر هذا؛ لأنه إنما يكون في الرجال دون النساء أكثر ما يكون. فلما احتاجوا إليه في النساء أجروه على الأكثر من موضعيه تقول: ”مؤذن بني فلان امرأة، وشهوده نساء، وفلانة شاهد له“؛ لأن الشهادات والأذان وما أشبهه إنما يكون للرجال وهو في النساء قليل.
إلا أن النحاة قديما استدركوا وأجازوا إدخال الهاء إذا دعت الحاجة فقالوا ملكة ووكيلة وأميرة.
وقد قال بعضهم في زماننا أن الأسماء الأجنبية كالدكتور والبروفيسور والفليسوف يستوي فيها التذكير والتأنيث؛ لأن الأصل في الإنجليزية مشترك لكليهما.
وحاج بعضهم في ذلك وقال إن المجمع أخطأ حين أعطى جميع الألقاب والمناصب حكما واحد، وهي ليست كذلك برأيه. وقالوا: يجوز أن تقول: «الوزير فلانة، والوزيرة فلانة»، وكذلك «النائب»، و«الرئيس». وطرحُ التاء أحسنُ. وذلك أنَّها أعمالٌ العادةُ فيها والأصل أن تكون للرجالِ.
أما «الأستاذ»، فليس فيها إلا ذكرُ التاء؛ فتقول: «الأستاذة فلانة» وأما المجاز، فنحوُ قولِهم: «هذا عضو مجمعِ كذا»، و«هذه عضو مجمع كذا»؛ إذْ كان هذا اللفظُ يدلُّ في حقيقة وضعِه على «العظم بلحمه»؛ ولكنَّ المحدَثينَ عدَلوا بهِ عن ذلك إلى ضربٍ من المجازِ، حينًا من «التشبيه البليغِ» كالذي تقدَّمَ، وحينًا من «الاستعارةِ» إذا حُذف المشبَّه؛ ألا ترى أنك إذا قلتَ: «هذه عضوُ مجمع كذا»، فكأنما قلتَ: «هذه في المجمعِ مثلُ العضوِ في البدنِ»؛ فتكونُ شبهتَها بالعضوِ.
ودافع بعض اللغويين عن قرار المجمع بقولهم ”إِنَّ كَوْنَ الْمَنصِبِ - في الغالِبِ - لِلرِّجالِ دُونَ النساءِ لا يَقتَضي أَنْ نُغْلِقَ دائِرَةَ الكَلِمَةِ، بِأَنْ نَحكُمَ عليها بِأَنَّها مُذَكَّرَةٌ، بَلِ الأَصلُ أَنْ نُبقِيَ على الكَلِمَةِ مَفتوحةً عَلَى كُلِّ الاحتمالاتِ الأُخرى القائمة القادمة ما دام الْمَنطِق اللُّغَوِيُّ يُجيز ذلكَ ولا يَمنَعُهُ؛ وَبِذلِكَ نُحافِظُ على أهَمِّ ميزة مِنْ ميزات اللغة، ألا وهي التطور“. فإن قل تسنم النساء لهذه المناصب أيام العرب القدامى، وعللوا تذكير هذه الألفاظ لهذا السبب فلا معنى لهذا التحجير اليوم، وقد تسلمت المرأة أعلى المناصب المختلفة " لذا ففي أيامنا هذه وقد احتلت المرأة تلك المناصب في كثير من دول العالم بما فيها دول عربية مسلمة، فلماذا يبقى اللفظ مجمّدا في صندوق المذكر؟”
وعلق بعض اللغويين في الجامعات السعودية على هذه الجدلية في المخاطبات الإدارية في الوزارات المختلفة حيث ذكر أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى الدكتور عبدالعزيز الطلحي، إن اللغة بالنسبة للمذكر والمؤنث الحقيقيين حيادي، وقال ”أن المشكلة تبقى في الخطاب الإداري أو القيادي، الذي يفترض ألا يتم التمييز فيه بين الذكر والأنثى، والأصل فيه أن نعتمد الخطاب القرآني العام، الذي خاطب الذكر والأنثى حين يكون الخطاب عاما لهما بخطاب واحد دون التمييز بينهما، كقوله تعالى“ يا أيها الذين آمنوا ”، فالخطاب يشير إلى الرجال والنساء على حد سواء، وأضاف أن هناك نماذج مصممة ومعدة مثل المطبوعات الحكومية، التي صممت لاستخدام الرجل والمرأة دون تمييز.“ واعتبر رئيس قسم اللغة العربية في تعليم محافظة الأفلاج راشد الأحمر قرار مجمع اللغة العربية تخليط فاحش وذكر أن التذكير هو الأصل، والتأنيث فرع، والخطاب بصيغة التذكير كاف، قال تعالى: ”فمن شهد منكم الشهر“، وهذا يشمل الرجال والنساء. «جريدة الوطن أونلاين 6/11/2016»
ولا شك أن الجوانب الاجتماعية وتطور المجتمعات له تأثير على الاستعمال اللغوي وكما يقال فاللغة كائن حي. وقد قادت الحركات النسوية في العالم حملات محمومة لمحاولة إبعاد أي شبهة تسلط ذكوري في مفردات أو تركيبات اللغة، ففي اللغة الإنجليزية استخدموا كلمة Chairperson بدلا من كلمة Chairman لرئيس الجلسة، وقالوا Police officer بدلا عن كلمة Policeman لرجل الشرطة في محاولة لانتزاع أي إشارة للتذكير في عملية ما أطلق عليه نزع الجنس أو اللاجنسنة «de-genderization» في اللغة وللدكتور الفلسطيني وعالم اللغة إلياس عطا الله بحث قيم في الموضوع بعنوان «تخنيث اللغة بين التذكير والتأنيث» استعرض فيه خصائص اللغة العربية مقارنة باللغات الأخرى من حيث التذكير والتأنيث، وقال ”تتميّز العربيّة، واللّغات السّاميّة على الغالب، بأنّ قضيّة التّذكير والتّأنيث فيها، تتجاوز الأسماء، لتشمل الصّفاتِ «وهي ممّا يندرج في الأسماء في أقسام الكلام الثّلاثة»، والأفعالَ، ولتشمل كذلكَ جملة من المبنيّات «وهي أيضا من الأسماء»، نحو: الضّمائر، أسماء الإشارة، الأسماء الموصولة، أمّا أسماء الشّرط وأسماء الاستفهام فقد جاءت بلفظ واحد للجنسين.“ وقد عاب في بحثه ما لاحظ في العربية من استعمال ثنائية الضمير «هو /هي» للهروب من الاتهام بالذكورية اللغوية وبغرض ”تحقيق المساواة“ وقال إن تحقيق هذه المساواة المدعاة صعب خاصة في الخطاب الشفوي إذ على المتكلم أن يستبدل مخزونه اللغوي ويتخير كلمات محايدة وهو أمر شبه مستحيل إذا ما عرفنا ضرورة التطابق بيت الأسماء وأفعالها وضمائرها ”أرى لزاما عليّ أن أشير إلى أنّ قضيّة الجندر في اللّغة، من حيث التّأنيث والتّذكير، وما جُنسِنَ من الأسماء في منأى عنهما - وفقا للّغات المختلفة -، قضيّة موجودة في أصل الوضع لهذه اللّغات، وليس لها مهامّ مجتمعيّة نظاميّة، استعلائيّة أو دونيّة وضعت خصّيصا لخدمة البنى الاجتماعيّة الباترياركيّة والسّياديّة، وما ترتّب عنها من واقع، أو ممارسات، أو تشريعات أسّست لتفضيل جنس، أو هيمنته، وعليه، فإنّ إقحام اللّغات في هذا المجال، وكأنّها أداة وُلِدتْ مع سبق الإصرار لتكريس واقع الحال في المجتمعات الذكوريّة، أو لتصوغ أفكارَ الإنسان ومواقفه، كلّه تعسّف وقلبٌ لحقائق الأمور، فاللّغة لم تُسقِط على الواقع شيئا في هذا الوضع، بل إنّ انعدام المساواة هو الذي أسقط على اللّغة تبعاتِهِ، ووضعها في قفص الاتّهام، وقد أكون متجنّيا بعض الشّيء إن قلت إنّ الدّعوات التّغييريّة المفضية إلى اللاجندرة أو نزع الجنسنة، ستكون نوعا من العبث، حتى لو أفلحتْ جزئيّا في تغيير بعض المفردات، وفي إسقاط بعض الأسلوبيّات، لأنّ حقيقة الجنسنة التي يجب أن تعالج، هي ما يُعاش خارج إطار اللّغة، في شتّى أصعدة الحياة، وما التّركيز على اللّغات، إلا نوع من اللّعب في حافّة الطّريق، أو في هامش الأشياء، لا في الجوهر“.
ويختم بحثه ليقول " فلنقل بدءًا إنّه لا حاجة لإجراء عمليّات تجميليّة على اللّغة العربيّة وأضرابها، فالإنصافُ أو غيابُه، والمساواة أو غيابُها، قضايا لا شأن للّغة بالتّأسيس لها، فاللّغة ما ولّدَتِ الغُبنَ بطبيعتها، ولا أسّستْ للامساواة بأصل وضعها، وقضيّة الخطاب في العربيّة تعتمد على جنس المخاطب، وعلى التّغليب اللّغويّ لصيغة المذكّر لا للذّكر نفسه، وعليه، ليست لغتُنا مجالَ صراع لمطلبٍ نسويّ....» على أنه قدم في النهاية عدة اقتراحات لما تعتقد بعض النسويات أنها خطوات تصحيحية منها تأنيث المهن والمناصب واستخدام الخط المائل متبوعا بعلامة التأنيث وإسقاط الفاعل والبناء على المجهول في الأفعال تفاديا للتذكير أو التأنيث في الخطاب، وإذا كان الخطاب المكتوب عاما فإضافة التأنيث «مثلا: إلى مدير/ مديرة المدرسة...»
هذه على عجالة بعض الآراء في الموضوع، ولكن الموضوع أكبر من ذلك بكثير وله غور عميق يحتاج إلى سعة معرفة المختصين في علوم اللغة، وإن كان ذوقي اللغوي يميل إلى توحيد الخطاب العام وتذكيره تغليبا والبعد عن الثنائية في الخطاب، ففي ذلك تيسير وتسهيل وعودة إلى المنابع الأصيلة للغة... كل عام ولغتنا بخير.