أمام المرآة
كتبت دهرا تحت هذا العنوان «أمام المرآة» وكنت أحمّل المرآة كوكبة من المعاني: فالوجه مرآة، والواقع مرآة، والتاريخ مرآة، والكون مرآة الخ. وإذن فالوقوف أمام المرآة يتيح لك أكثر من أفق؛ للدخول إلى الكتابة ذات المعنى. وأول من لفت نظري إلى المرآة هو ما قاله الشاعر ذو الرمة، واصفا ناقته «لها أذن حشر وذفرى أسيلة / وخد كمرآة الغريبة أسجح» فالغريبة، وهي المتزوجة في غير قومها تكون مرآتها نقية صافية دائما؛ لأن نساء الحي لا يخبرونها حين يكون في وجهها ما يشينه، فتلجأ إلى المرآة. أما حديثا فقد وقف أمام المرآة شعراء مبدعون، ولكنهم لم يخرجوا عن نطاق التأمل في وجوههم وتحميل المرآة معنى مرادفا لمعنى القرين الذاتي.
يقول بعض المحللين النفسيين: إن كل إنسان ينشأ في مرحلة نرجسية، فهو لا يرى غيره في مرآة الحياة زمنا طويلا، ولكنه يتخلص من هذه النرجسية عندما يتعرف على أفكار وتجارب مجتمعه. وهذا التعرّف إما أن يكون تعرفا صائبا، أو تعرفا ملتبسا. وهنا نسمع التاريخ يقول لنا: إن التعرّف الملتبس هو المسيطر على الأكثرية البشرية دائما؛ لذلك، على الرغم من إنارة الأنبياء والمصلحين لطريق المعرفة المضيئة، لا يزال معظم البشر في كل جيل مصرين على السير في الضباب.
ترى ما هو السبب؟ السبب الواضح أكثر من غيره هو القناعة بما يتلقاه الفرد من الأفكار بدون رؤية جدلية، وموقف ذاتي. فهذه القناعة إما أن تكون قناعة ثابتة مستقرة لا تطمح إلى تطوير نفسها، راضية بإقامتها على السفح، وإما أن تكون قناعة طامحة إلى الذروة، متعطشة إلى ركوب البحر لا الساقية.
هناك وهم مستقر عند الأكثرية من الناس استقرار اليقين، وهو أن تغيّر القناعة في الأفكار، في حال تبلورها وصعودها، مرادف للتغير في العقائد، وهذا وهم؛ لأن العقيدة كسائر القيم سمو روحي، تعلو بعلو المعرفة عند الفرد، وليست مستقرة في درجة واحدة من السلَّم. وقد قال أحدهم منذ قرون: «العلم المستقر كالجهل المستقر» وأنا أفهم الآية الكريمة «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم» على أن الإيمان إذا دخل القلب ارتبط به السلوك، أما الإسلام فمرتبط بالقول. والفرق بين عقيدة السلوك وعقيدة الكلام يراه الأعمى واضحا.
والإيمان المتحول إلى سلوك يزداد نقاء وصعودا وإضاءة بصعود المعرفة المتطورة.