متلازمة القلق النفسي.. بين الانفلات والانضباط.. حدثٌ وحديثٌ ”63“
لَا يُمكن لأعراض ”مُتلازِمة القلق“ النفسي، بشَديد هَجمتِها المُتفاقمةِ المُتعاظمة، وعَتيد مُتغيّراتِها الظاهرةِ القاهرةِ، أن تَتخفّى، وتَتوارَى عِن رصدِ عَدسات الانظار يومًا، وإنْ حَاول صاحبُها المُحاذِر - بقناعٍ هَشٍ وَاهنٍ - مِن التستّر المُضلّل، أنْ يظفر بكَتم ولَجم أعراضِها المُقلِقة؛ فسَيكشِفُها الآخرون قِراءةً ومَعرفةً آنيتَين، خاصّة مِن أفرد الثّلةِ المُقرّبةِ، التي يتعامَل، أو يتواصَل مَعها - ذلك الفرد - مِن حَوله، بشكلٍ يَوميٍّ مُعتادٍ؛ وقد يظهر، ويستعر، وينتشر خبرُ ”نفرةِ“ الخللِ النفسي المُلازِم عَلانيةً، أثناء قِيامِ وُسعِ صَاحبِه وقُعودِه؛ وفي قائم فَلتاتِ لِسانه، أو حتّى في صَميمِ وعَميمِ بؤرةِ تركِيزه، وفي لَحظات تجاذبه لأطراف الحديت الودّي مع الآخرين؛ وفي جُلّ رَيعِ مَشاعَرهِ، وساعةِ لقاءاته المُعتادةِ؛ أو في سَائرِ نظراته الثاقبة… عَلاوةً على ذلك، يُلاحِظُ المريض جُملةَ أعراضٍ جِسمانيةٍ: كزيادةِ نبضاتِ القلب، والتعرّق، وألمٍ في المَعدة، وأحيانًا، الشعور بالدّوخة، وعدم التوازن؛ أمّا الآخرون مِن حوله فيُلاحظون تشتتّث وتبعثُر حَبل أفكاره، في وَضعٍ فاضحٍ مُزرٍ، يُتِيحُ لحاضِرهم وشاهِد الحال، أنْ يَحظى بدرجةِ ”امتيازٍ“ مُستحقّةٍ، في مُلاحظة، وتَقصّي، وتَشخِيص، بعضٍ منِ رِزم المُتغيّرات المُفاجئة الطّارئة على حالةِ المريض النفسية، وكذا ”طَفرةِ“ تعكّر مِزاجه الوِجدانية، الشاخِصتين الراهِنتين… وقد يُلهِبُ ويُشعِلُ قَدح استشعار، إحساس وتقييم الآخرين لحالته الظاهرة سَلبيًا، بحالة ثانويّة مُتردّية مِن ”هوس“ هبّة الإحساس ”بالدُّونية“ وزَعزعةِ الثقة بالنفس؛ وقد يزيد الطين بَلّةً مِن شِدّة هَجمة نوبة الامتِعاض؛ واجتِياح وَصمة الفُتُور النفسي المُقلِقتَين؛ وقد يَتسبّب وَقعُ تلك النوازِل المُتلازمة المُهلكة عُنوةً، في دُخول صاحبِ الشخصية القلقة، إلى مُحيطِ دَوامةٍ مِن شديد بطش قبضةِ نازلةٍ مِن الأعراضِ المُتمكّنةِ المُستحوذِةِ، بشعورِ حالةٍ مِن الاكتئاب والعُزلة؛ ومِن ثمّ بُلوغِه الحَتمِي إلى مَرحلةٍ مُتقدّمةٍ مِن تُخومِ ذُروةٍ مُتلازمةٍ مِن حالة الشّللِ الكلّي المُستفحِل، خاصةً، إذا تقبّلَ ”المريض“ نفسُه مُستسلِمًا، بواقعِ حالهِ الُمعاب المُزري؛ وطَواهُ طور صِراع القلق طواعيةً وغَفلةً، على سُوءِ بَلّتِة…!
هَذا، ولجَولاتِ وصَولاتِ تسلّل أزمة القلق المُندسّة الغازِية، في سَرِيع هَجمتها المُباغتة، ووَقعٌ ثِقلٌ نزلتها، على حِين غُرّةٍ، حيثُ يَسري مَصلُ مَفعولُها بعُمق، كما يَندسّ السُّم في العسل… ومِمّا يؤكّد ذلك الاعتلال الماثل، أنّ نازلة عرَض القلق المَشؤومة، تأتي مُتنقّبةً مُستتِرةً؛ وهذا مَا يَجعل الشخصُ المُصابُ، في حَيرة مِن حالِ أمرِه! إذ أنّه بتَفاقُمِ وعَصفِ ذُروة سُوء الأحوال العُصابية المَرَضِية، قد يلجأ الشخص المُبتلى قُدُمًا، إلى ارتكاب مَا لَا يُحمَد عًقباه…!
والجديرُ بالذكر أنّ حالة الخوف - إحدى مُسبّبات القلق - التي تنتابُ فكر الشخصَ عَادةً، يُمكن تحديدها بدقةٍ، ومعرفة مَصدرِها ”الخارجي“ بسهولةٍ؛ وبالتّالي تُركَّيز الجُهود المُكثّفة المُمكِنة، للتغلّب النهائي على طبيعة أصل المصدر الخارخي ”المُهدِّد“ … أمّا في حالةِ سَيطرةِ ”القلق“ المُستفحِل، فالسّبب مَجهولُ الهُوية، وغَير مَعروفِ المَصدر؛ وربّما مُبالغٌ في تصوّره، أو حَدسهِ، أو تخيّله، جُملةً وتَفصِيلًا؛ وقد يكُونُ مْصطنعًا وَهميًا؛ نتيجةً حَتمِيةً لتداخُل عَددٍ مِن اجتياح الحالات الغازِية تِباعًا: كالخوفِ، والتوتّرِ، والأرَق، واضطرابِ المِزاج، والجَزع المؤلم، ونوبات الهلع… حيث تشكّل رُيوع ومخرجات تلك الاضطرابات النفسية المُختلطة، ومِثلها مَا يَملأ جَوف سلّة الضغوط الاجتماعية والمعيشية، برمّتها: مَنشأ مُتلازمةٍ مُعقدّةِ التركيب؛ لتُوصِل الشخصَ المُصابَ المُبتلَى، إلى مَوضعٍ مُتردٍ في أحضان حالةِ القلق المُتنامية.
هَذا، ومِن حُسنِ الحظِّ، هناك طَرائقَ ومَنافذَ عَملية مُقترحَة، يُمكن للمُصابِ المُبتلى - بهجمة القلق النفسي - أن يَطرَق بابَها استشرافًا؛ ليجدَ في مُتّسعِ انفراجِها مَخرجًا؛ للتحرّرِ الذاتي مِن أزمة مُتلازمة القلق الخانقة أوّلها: «التسامُح مَع النفس، وبناء السلام الداخلي؛ وعدم الاستسلام لثرثرة الملامة، وجَلدّ الذات، وحِديّة المزاج، وتأنيب الضمير… عند الفشل أو التعثّر - في أوّل خطوةٍ - عند الإقدام الحافز على الانخراط في مَشروعٍ مَا؛ والأنجع الأصلح، تفادي جميع سَلاسل الأخطاء، وحَبائل المُثبّطات المُحبِطة، التي أدّت إلى استجلاب مَوجة القلق. وثانِيها: الرّضا والقناعة، بما في اليد، وعدم أبداء نزعة الحسد؛ والنظر إلى مَا في أيدي الناس، إذْ أنّ دأبَ ذلك المَنحَى المُتطفّل الشائن، يِثير مَوارِد القلق غير المَحمودةِ عَواقبها. وثالِثها: عدم الرّكض واللّهث المُجهِد وَراء نزعة الوصُول إلى مَراقِي درجاتٍ مُتقدّمةٍ مِن سِمتا الكَمال والمِثالية؛ والسعي ”المُضنِي“ إلى بُلوغِ سَقفِ أهدافٍ صَعبةِ المَنال والتحقّق، في حالِ الكفافِ، وشُحّ مَواردِ القدرات المادِية؛ ونُدرةِ المداخِيل الكَسبية؛ تجنّبًا للوصول الذاتي المُؤلم، إلى مَواجع الإحساس بالدونية، وندبِ الحظِ، وخيبةِ الأملِ… ورابِعها: تجنّبُ الحرصِ الذاتي على مُتابعة مَصادر التواصل الاجتماعي الخبرِيّة اليومية المؤلمة المُشتّتة للذّهن؛ وتفادي الإدمان على الاستماع إلى نشرات الأخبار العالمية المُتتابعة؛ ومِثله مُشاهدة بعض أفلام ومُسلسلات العُنف المْدبلجة، لما فيها مِن مَشاهد ومَظاهر استبطان القَسوة؛ وربّما استلطاف طُعم الانحرافات السلوكية الماجنة؛ والامتناع الواعِي لتجنّب أخبار أَحداث الحُروب الدامِية؛ ومِثلها مَصائب الكَوارث المُدمّرة، وصُفوف الخسائر البشرية البشعة؛ وتتبُّع إقفال أعمال أبواب المرافق الاقتصادية الحيوية المُنهارَة؛ وبَدلًا عَن ذلك المَنحى المُقلِق، العُدُول الذاتي إلى استغلال أوقات الفراغ في تنظيمِ برنامجٍ اجتماعي مُفيد، للتواصل الجاد بزيارة جمعِ الأقارب، وثلّةِ الأصدقاء... وخامِسها: التركيز على هَدفٍ سامٍ، ورِسالةٍ اجتماعيةٍ حَيويةٍ جادّة، يُمكن تحقيقها بيُسرٍ وسُهولةٍ، دُون جَلب وتَحمّل المزيد مِن آلاَم حالات القلق المَرضِي المُزعجة، المَحفُوفة بأشواك المصاعِب الشائكة، التي تُؤدّي بحُلولها المُستهجَن، ونُزولها المُستوطِن، إلى سُلوك طريق الفشل؛ وانتهاج مّغبّة خيبة الأمل. وسادِسها: رَسم وتَفعيل خُطةِ برنامج تَرفيهي شَخصي مُنظّم ومُناسب للفئة العُمرية، كالانضمام إلى نادٍ رِياضي، والالتزام برياضة المَشي، أو الهَرولة؛ أو مَا شَابههم، كالانخراط في مُمارسةِ هِوايةٍ مُحبّبةٍ؛ للضبطِ والتخفِيفِ مِن آثار حِدّة القلق، وشدّة فورة الانزعاج المُستحوِذتين».
هَذا، وقد يظنّ بعضُ الناس أنّ وَطأة القلقِ النازلة هي وَحدها النوع المَنبوذ المُوصل إلى بلوغ حِدّة السقف المَرَضي… غير أنّ واقِع الأمر، يكشِفُ بأنّ هُناك درجاتً وأنواعًا مُتفاوتةً مُتباينةً لنزلةِ هجمةِ القلق النفسية، مِنها - على سَبيل المِثال: مَا يُسمّى بنزعة القلق ”الطارِئ الحمِيد“ أو الطبيعي، الذي سُرعان مَا يتمّ التغلّب عليه؛ هذا النوع مِن القلق له جُملةٌ مِن الفوائد الكَسبية أهمها: زِيادةُ الاهتمام والتركيزُ على نوعِ وجَودةِ مُخرجاتِ العمل المُتوقّع إنجازه - في الوقت القريب - الذي أدّى ثُقلُه إلى استهلال مَوجة هبّة القلق المؤقّتة؛ ويُمكن القول بأنّ جملةَ تلك المشاعِر الظاهرة، هي حَميدةُ المَنشأ، وصِحيّة المَورِد: كَموجةِ القلق الطارئة، التي تنتابُ الطالبُ، في الفترة مَا قبل الدخول إلى قاعة الاختبارات الدراسية؛ وبالمِثل، ترقّب حُضور طالب الوظيفة المُثول إلى مقرّ مقابلتة الشخصية؛ أو اهتمام ربّ العمل بإعادة ترتيب وتحديث، وتنظيم أوضاع مَرافق خطّ الإنتاج في مَصنعه، بعد أنُ مُنِي بحزمةٍ مِن الخسائر المالية الفادِحة… «وفي نهاية المَطاف، عِندما تزدَاد وتتنامَى شِدّة مُتلازمة الأعراض المُؤرّقة الظاهِرة، في شَديدِ حَالتها ”المَرَضية“ لابُدّ لتلك الحالة المُتردّية للمريض، مِن طلبِ يد َالعون، ومدّ يدِ المساعدة لها، وانتشالها، مِن سيّئ حَالٍ، إلى أحسنَ حَالٍ؛ والاستعانة المُتابِعة بكُورس العلاج النفسي ”المعرفي السلوكي“ المُتخصّص، كما أنّ هناك أدويةً مُهدّئةً، تُصرفُ عَادةً لمَرضَى الاكتئاب؛ ويَسري مَفعولُها العِلاجي، في المُتابعة العِلاجية السريرية لحالة مَرضَى القلق النفسي المُستفحِل». والله أعلم!