ما زالت الطيبة مستمرة في عالم محموم بالتنافس، التطور الثقافي قد يفسر سبب ذلك الاستمرار
25 سبتمبر 2023
جوناثان آر جودمان، باحث في دراسات التطور البشري، جامعة كامبريدج
المترجم: عدنان احمد الحاجي
المقالة رقم 312 لسنة 2023
Kindness has persisted in a competitive world - cultural evolution can explain why
September 25,2023
Jonathan R Goodman، Researcher، Human Evolutionary Studies، University of Cambridge
تنصل من المترجم:
المقال المترجم أدناه يمثل فقط رأي المؤلف ونقلناه هنا لأهمية ما ورد فيه من مضامين علمية؛ وبإمكان القاريء الكريم ان يسقط المضمون على ما يراه مناسبًا في بيئته أو في ثقافته إن أراد. والأمثلة الواردة فيه نقلناها بأمانة كما ينبغي. التعليقات الواردة بين قوسين مربعين وضعناها للتوضيح فقط.
ونحن نتمشى في الآونة الأخيرة مع مجموعة من رفاقنا أولياء الأمور بعد أن وصَّلنا أطفالنا إلى الحضانة وجدنا ورقة نقدية من فئة 5 جنيهات استرلينية على الرصيف. وقفنا برهة حولها متحيرين بعض الشيء، حتى اقترح أحدهم وضعها على كرسي قريب. ثم ذكر أحدهم أننا ربما تصرفنا تصرفًا مختلفًا - أي كان من شأننا أن نأخذ هذا المال - لو كنا بمفردنا [حين لا يراقبنا أحد].
فهذا يتعلق بمسألة كلاسيكية في دراسات السخاء لدى البشر [السخاء، بحسب التعريف، هو العطاء بدون توقع شيء في المقابل [1] ]: هل نتصرف بأكثر أنانية حين لا نكون مُراقَبين؟ هناك الكثير من الدراسات حول هذه السمة إلَّا أن نتائجها غير حاسمة. الجدل محتدم في مختلف العلوم النفسية والبيولوجية، وكذلك في الثقافة الشعبية [الموروث الثقافي [2] ]، حول ما إذا كانت الطيبة «اللطف» لا تزال موجودة في عالم محموم بالتنافس. [المترجم: الطيبة أو اللطف نوع من السلوك السخي تجاه الآخرين، من حيث معاملتهم بشكل جيد والكرم تجاههم والشعور بالقلق عليهم من دون انتظار مكافئة منهم [3] ]
ولكن على الرغم من الفكرة المشتركة المتمثلة في رفض التعاليم الأخلاقية للعديد من الديانات المنظمة «كما يطلق عليها أيضًا الديانات المؤسسية [4] » في مختلف أنحاء العالم، فإن إحدى نقاط يوم كيبور، [أي عيد الغفران اليهودي [5] ]، تتلخص في مساعدتنا على تعلم التصرف بنحو أفضل بصرف النظر عمن يراقبنا «بمشهدٍ من أحد - أي ما إذا كان تصرفنا علني أو سري]. هناك الجمال التطوري لتعاليم الأديان، التي هي نتاج آلاف السنين من التغيير الثقافي [6] .
في يوم الغفران، يقضي العديد من اليهود معظم يومهم - إن لم يكن كله - في الكنيس. يصومون ويطلبون المغفرة من الذنوب التي ارتكبوها، آخذين في الاعتبار كيف يهذبون أنفسهم [بحسب ادعائهم]. جانب كبير من هذه الممارسة تتمثل في الاعتراف بعادات تقديم الهدايا في اليهودية، والتي يُطلق عليها المصطلح الشامل: ”الصدقة العبرية الواجبة tzedakah [7] [المترجم: لعلها تقابل الزكاة عندنا، مع ان الزكاة وردت بمعنى الصدقات أيضًا]“.
للصدقة العبرية العديد من المزايا التي تساعد على الحث على السخاء. لكن من الغريب أن بعض هذه الأفكار تتوافق أيضًا مع توقعات النظرية التطورية، التي تُعرِّف الإيثار على أنه شيء ممكن فقط عندما لا نتوقع الحصول على أي شيء في المقابل - بما في ذلك الإطراء - على أعمالنا الخيرية.
على سبيل المثال، كما تعلمنا، هناك مستويات لآفضل التبرعات «الصدقات» كما أن هناك مستويات لأسوئها. يُعتبر التبرع «التصدق» في العلن أدنى مستويات السخاء، في حين أت التصدق في السر حين لا يعرف المعطي «المتصدق / المتبرع» ولا مستلم الصدقة / التبرع هوية أحدهما الآخر يُعتبر أعلى مستويات السخاء.
قد يبدو هذا الفرق فرقًا تافهًا، لكن محاولة اعطاء أي شخص أي شيء دون الكشف عن هوية الأول أمر صعب. «هل حاولت؟» دائمًا ما يكون لدينا دافع لإخبار الآخرين عن ماهيتنا السخية، ومقاومة ذلك الدافع تعتبر صراعًا مع تاريخنا التطوري، الذي يرسخ فينا الرغبة في السمعة الطيبة بقدر الرغبة في الحصول على الموارد التي تساعدنا على البقاء على قيد الحياة.
ليس من قبيل الصدفة، على سبيل المثال، أنه عندما استكشفت [8] باحثة الأنثروبولوجيا بولي ويسنر Polly Wiessner السخاء في الألعاب الاقتصادية [9] في أوساط مجموعة من الصيادين والجامعين، سألها العديد من الناس عما إذا ما كانت تبرعاتهم كانت بأسماء مجهولة فعلًا.
لدينا دافع لاخبار الآخرين عن أفعالنا أو دافع لإخفائها. ومجموعة من المبادئ المستمدة من الشعائر الدينية، مثل التصدق، تساعدنا بدورها على كبت تلك الدوافع.
وتقدم الممارسات الدينية والثقافية في مختلف أنحاء العالم توجيهات مماثلة، حيث تساعد الناس على التصرف بطرق تعود بالنفع على بعضهم بعض، وليس على أنفسهم وأسرهم فحسب. القاعدة الذهبية للكتاب المقدس - التي غالبا ما تصاغ على النحو التالي: ”عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك“ - هي مثال مثير للاهتمام لأنها ظهرت، بشكل مستقل، في العديد من المجتمعات حول العالم [10] .
صياغة الارشادات «التوجيهات» الأخلاقية المستندة إلى التقمص الوجداني [11] على تعظيم مستوى السخاء في المجتمع كله: بالطبع، سأحتاج إلى تلك المعونة لو أعيش في نفس الوضع كشخص يعيش بلا مأوى «من سكان الشوارع».
وهذا لا يتطلب دينًا مؤسسيًا. جماعات الصيادين والجامعين [في قديم الزمان]، حيث الظروف التي عاشتها هذه الجماعات كانت ممثلة لأفضل الظروف التي نشأ فيها الجنس البشري، كان لديها العديد من الأمثلة المماثلة لهذا القبيل.
يمارس شعب الماساي في كينيا ما يُعرف ب أوسوتوا osotua «المصطلح يُترجم حرفيًا إلى الإنجليزية ب ”الحبل السري“»، ومن ناحية مجازية يعني العلاقات البينية المبنية على العطاء / الهبات / الهدايا [بناءً على الالتزام والحاجة والاحترام بين الناس [12] ]. عندما يرتبط أحد الأشخاص بعلاقة من نوع ال أوسوتوا مع شخص آخر، فإنه يدخل في عقد اجتماعي غير مكتوب لمساعدة صاحبه في أوقات الحاجة.
التطور الثقافي
التطور «التغير الثقافي [6] - وهو انتشار وتغير المعلومات غير الموروثة «غير المشفرة في جيناتنا» [المترجم: أو بمعنى آخر المعلومات المكتسبة» - يساعد على تفسير انتشار هذه الأنظمة الثقافية وتعقيداتها. التغيرات الثقافية [6] تعتبر أسرع بكثير من التغيرات البيولوجية، مما يسمح للأجناس الذكية كالبشر بتطوير وإظهار تكيفات سلوكية لإدارة البيئات الاجتماعية المعقدة. [المترجم: بحسب التعريف، التكيفات السلوكية هي ما يفعله الانسان أو الحيوان عادةً استجابةً لنوع من المثيرات الخارجية من أجل البقاء. يعد السبات الشتوي مثالاً على التكيف السلوكي [13] ]
وقد ساعدتنا دراسة تلك التغيرات على فهم مدى انتشارنا بنجاح في أنحاء العالم كجامعات تعاونية. على سبيل المثال، التطور البيولوجي، بما فيه انخفاض مستوى هرمون التستوستيرون [14] ، ساعد البشر على أن يكونوا أكثر تعاونًا فيما بينهم، ولكن التغيرات الثقافية [6] أدت إلى تسريع وتيرة هذه العملية [15] .
التصدق والقاعدة الذهبية [عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك] وال أوسوتوا، أو أي ممارسة تساعد على الحفاظ على معاملة الآخرين في المجتمع بصورة جيدة، هي نتيجة عشرات الآلاف من السنين من التجربة «المحاولة» والخطأ الثقافية cultural trial and error [أي التغيرات التي تطرأ على الثقافة من خلال التجربة والخطأ على مر السنين المتطاولة]. العادات التي انتقلت عبر الزمن هي تلك التي تساعدنا على الازدهار كجماعات ثقافية [المترجم: الجماعة الثقافية هي ببساطة جماعة تتكون من أفراد يشتركون في مجموعة أساسية من معتقدات وأنساق سلوكية وقيمية؛ وقد تكون هذه الجماعات كبيرة أو صغيرة، ولكنها تُحدد بأساليب تفكيرها وتصرفاتها. تتميز جميع المجموعات الثقافية بالتنوع داخل الجماعة الواحدة [15] ].
لدى الفلسفة الأخلاقية أهداف مماثلة، على الرغم من أن المبادئ الرئيسة لمظاهرها المختلفة - على سبيل المثال، الضرورة الحتمية Categorical Imperative لكانط Kant والذي أشار إلى أن الأخلاق مشتقة من العقلانية وأن جميع الأحكام الأخلاقية مستندة إلى العقلانية، وأنه ليس هناك منطقة رمادية، والبشر ملزمون باتباع هذه الحتمية دون قيد أو شرط إذا أرادوا الادعاء بأنهم أخلاقيون [16] ].، والتي تركز جزئيًا على كيف ينبغي لنا أن نقبل فقط تلك القواعد التي ينبغي على كل واحد أن يقبلها - نتجت من النهج العقلاني لشخص واحد أو أكثر.
الكثيرون تعلموا هذه الآراء في المدارس والجامعات. ولكن على عكس المبادئ الدينية القديمة، فإنها لا تشكل في كثير من الأحيان جانبًا من جوانب تثاقفنا «أي اكتسبنا للثقافة» [6] الأساسية - على الرغم من أن هذا لا يعني أن لدى هذه الديانات أقل مما تقدمه لنا. لدى كل من الفلسفة الأخلاقية وتوجيهات دياناتنا الكثير مما يمكننا أن نتعلمه منها عن كيف نتغلب على طبيعتنا الأنانية.
منذ ما يقرب من 2000 عام، كتب أرسطو أنه لكي نكون أخلاقيين، لا ينبغي لنا أن نتبع أي قاعدة معينة كما اتفق، بل علينا أن يكون هدفنا فهم الغرض الذي تخدمه هذه القاعدة. هذا التفكير من الناحية التطورية يجسد الهدف بوضوح: لقد ساعدنا التطور الثقافي على التغلب على بداياتنا الأنانية.
إن ما توارثناه يساعد كل واحد منا على العيش بسلام ضمن ثقافة المجتمع الذي عشنا فيه. إن رفض هذه التعاليم على أي أسس متحيزة - كراهية الدين، على سبيل المثال - من المرجح أن يجعلنا جميعًا في أسوأ حال. حاول أن تفهم القواعد قبل أن ترفضها.