صراع الشرق والغرب وما بينهما
في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، جرت تقسيمات لمناطق العالم على أساسين: عقائدي بين الشرق والغرب، والآخر ارتبط بالتمييز بين عالمي الغنى والفقر، وعرف بالصراع بين الشمال والجنوب. ففي الشمال تتكدس الثروة، وفي الجنوب توجد المواد الخام والقوى العاملة والثروات الطبيعية، رغم أن أهلها لم يتمكنوا بعد من الإمساك بزمام مقاديرهم.
الأحداث التي أفرزتها نتائج تلك الحرب، أفرزت واقعاً جديداً، اتسم بتصاعد حركات التحرر الوطني، في القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث كانت من أهم معالم القرن العشرين. وكان استقلال الهند وانتصار الثورة الصينية، في البلدين اللذين يضمان مخزوناً بشرياً ضخماً، نقلة نوعية في مضمار استقلال الشعوب.
وأهم ما أفرزته معارك تحرر الجنوب من هيمنة الشمال، هو انقسام العالم، على أسس عقائدية، إلى شرق وغرب، مع وجود بعض الاستثناءات. فالشرق، بقيادة الاتحاد السوفييتي اعتنق الاشتراكية، بينما حافظت الدول الغربية على انتماءاتها الرأسمالية، رغم انتشار الحركة الاشتراكية وأحزابها السياسية بقوة في عدد منها، كفرنسا وإيطاليا واليونان. ولا شك في أن نتائج الحرب العالمية الثانية، واللقاءات المتكررة بين الرئيس الأمريكي روزفلت، والسكرتير العام للحزب الشيوعي الروسي ستالين، أثناء الحرب، قد رسمت شكل الخريطة ألأوروبية لما بعد الحرب.
جاء الزحف السوفييتي إلى ألمانيا، عابراً أراضي أوروبا الشرقية، إلى مدينة برلين، والزحف الأمريكي القادم من الغرب، والذي بلغ أوجه بالوصول إلى الجانب الغربي من المدينة، ليحدد بطريقة لا لبس فيها الشكل الجديد للخارطة الأوروبية. فما هو شرقي المدينة، سيكون تابعاً لموسكو، وسيرتبط لاحقاً بحلف وارسو، وما كان غربيها سيرتبط بالولايات المتحدة، ويكون ضمن مصالحها الحيوية، وسيلتزم بالنظام الرأسمالي، ويرتبط عسكريا بحلف الناتو.
وهكذا تم تقسيم القارة الأوروبية، إلى نظامين سياسيين. اشتراكي ويقع في الجزء الشرقي من برلين، وصولاً إلى الاتحاد السوفييتي، زعيمة المعسكر الاشتراكي، وآخر، يبدأ من الجزء الغربي من مدينة برلين، غرب أوروبا، وعبر المحيط وصولاً إلى الولايات المتحدة، حيث ترتبط بلدانها بعضوية حلف الناتو، والنظام الرأسمالي.
لقد نتج عن هذا التقسيم، واكتشاف سلاح الرعب النووي في الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية، واستخدام هذا السلاح في مدينتي هيروشيما ونغازاكي، اندلاع الحرب الباردة بين القطبين الأعظمين في العالم، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
ولأن بناء حائط برلين كان بداية الإفصاح عن اندلاع الحرب الباردة بين الشرق والغرب، فإن انهيار هذا الجدار في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، هو بمثابة الإعلان الصريح عن نهاية تلك الحرب، كما كان أعلاناً عن سقوط الإمبراطورية السوفييتية، التي سيطرت على الجزء الشرقي من القارة الأوربية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى سقوط الحائط. واهتمت الولايات المتحدة، بعد هيمنتها على الجزء الغربي من القارة الأوروبية، بمشروعين. الأول إعادة الإعمار، من خلال مشروع مارشال، الذي وضع اللبنات الأساسية للوحدة الأوروبية. والمشروع الآخر، هو ربط دول أوروبا الغربية بحلف الناتو.
وشكّل سقوط حائط برلين، مرحلة جديدة في التاريخ المعاصر، حيث اقترن ذلك بتساقط منظومة الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وليتبع ذلك السقوط المدوّي للاتحاد السوفييتي نفسه.
موسم الفرح الأمريكي بسقوط الاتحاد السوفييتي لم يستمر طويلاً، فبعد رحيل بوريس يلتسين، برز الدور الكارزمي الحقيقي لفلاديمير بوتين، الذي كرر مراراً، أن سقوط الاتحاد السوفييتي كان كارثة على روسيا. وعمل جلّ طاقته لاستعادة الدور الروسي بقوة في السياسة الدولية. وقد قطعت روسيا في عهده مسافات طويلة على هذا الطريق، وتمكنت من استعادة هيبتها وقوة حضورها في الساحة الدولية.
وقد تزامن ذلك بحضور آخر، قوي أيضاً للصين الشعبية، التي دخلت مجال التصنيع بشكل سريع قل وجود نظير له في التاريخ الإنساني. ورغم أن الخيارات الاقتصادية هذه المرة، تعدّت الشكل السابق الذي ساد إبّان الحقبة الاشتراكية، لكن معالم الصراع بين الشرق والغرب، لم تنته، واتخذت أشكالاً جديدة، ربما تكون أكثر حدة ومرارة.