ذائقة المزاج.. بين رجاحة العقل، وحقارة الجهل.. حَدثٌ وحَديثٌ ”62“
لَعلَّ سِرَّ ظاهرةِ التغيّرِ النّمطِي الشّكلِي؛ ومَيلَ التبدّل الّلونِي المَزجِي؛ ونزعةَ التقلّبِ المِزاجِي الفِسيولوجِي؛ ونهجَ التذَبذُبِ الذّهنِي، مِن سَابقِ حالٍ فَائت، إلى شَاخصِ حالٍ سَائدٍ - الظاهر رُؤيةً مُصدّقةُ، أمامَ شبكيةِ العينِ الحاضرةِ المُبصرةِ، بمعِيةِ مُؤازرةِ واقعِ هِبة الحواسِ الماثلةِ النشطةِ، المُشاهدةِ عِيانًا بَاديًا، في تَغيّر وتَبدّل هَبّاتِ مِزاج الفردٍ مِن رَائقٍ فائقٍ، إلى كَدرٍ عَكِرٍ… هي كَونيةِ المَنشأ، ورَبّانيةِ الخِلقة، وذَاتيةِ السّريرةِ... كَون هَيأة المَلامِح الفسيولُوجيةِ المزاجيةِ المَقروءةِ ارتسامًا مَلحوظًا؛ ونَواتِج سِيماءِ السماتِ الشخصيةِ، المُتشكّلةِ لَازِمةً لَحظِيًا؛ المُتمثّلةِ بريعِ مُخرجاتِها ذَاتِيًا، في ظِلّ وَمضةِ لَحظةٍ خَاطفةٍ، بتلقائيةٍ مَلحوظةٍ، في ذَائقةِ جَوهرِ داخِلةِ النفسِ البشريّةِ المُتقلّبةِ المُلهَمةِ رَبانيًا: هُما سِمتا ”الفُجُور والتّقوَى“ حَيث لَا يُسبر غَورُ جِبلّةِ أَطوارَ، وغَاياتِ، وأَسرارِ حَقيقتِهما المُتناقِضةِ إلّا عالِم ”السرّ والنجوَى“ الذي لَا يَعزُب عَن كمالِ عِلمِه مِثقال ذرّةٍ، في تَجلّةِ مِنحةٍ إلهيةٍ مُقدّرةٍ مَقضيةٍ؛ ولَا يُدرِك سَبيل سَيرِ غَايتِها المُستتِر؛ ولا يُخبِر جُلّ مِشوار مُنتهاها المُتوارِي، عقلُ نائلةِ الفردِ المُتأمّلِ، بأَصغرَيه، المُتدبّرِ في أسمَى كُنهِ كَنفِ جَوهرِ أسرارِ الذاتِ المَلكُوتِيةِ الربّانيةِ الأَعلى…! ويَتبَعُ سلسلةُ ذلك التقلّب الخِلقي المُعاش إخبارًا رَبانيًا، في سَديم فلكِ بِنيةِ آياتِ اللهِ العُظمى، مَا أخبرَنا وأعلمَنا عنه - ربُّ العِزّةِ والجَلالِ - في مُحكمِ مَتنِ كِتابه المجِيد، مِن قَوام حَقيقةِ طَفرةِ سِرّ التبدّلِ الخلقي الزماني - في يومِ الفزعِ الأكبرِ - لتغيّرِ لَونِ السماءِ الساحرةِ، المُزدانةِ بزُرقةِ لونِها الآسرةِ؛ والجاذبةِ ببريقِ نُجومِها المَعهودةِ، في سَماءِ الدنيا، إلى لونِ الوَردِة الحمراءِ؛ بسببِ شِدّةِ أهوَالِ وأفزَاعِ يومِ القيامةِ… «فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ».*
وبالرجُوعِ المُتفهّمِ إلى أصلِ جَذوةِ دَورِ المُشاهدةِ اليوميةِ المُتأمّلةِ في أساليبَ وأنماطَ مُعاشرةِ الشخصيةِ المُتبدّلة المزاجيةِ، تبرزُ هناك: «أربعُ عَلاماتٍ رَئيسةٍ مِن أنساقِ مُؤشّراتِ العَلاماتِ السلوكيةِ المُختلطةِ المُتقلّبةِ، تصِفُ بإنصافٍ وصِدقٍ، حَقيقةَ واقعِ نفسيةِ الشخصِ المزاجي، أوّلها: تبدّل وتغيّر مَشاعرِه الظاهرةِ، بشكلٍ مُتطرّفٍ مَلحوظٍ، بمنظار ردِيء ملِيء بمَظاهِر السلبيةِ الماثلةِ اشتمالًا: كالتعاسةِ، وخَيبةِ الأَملِ، وسُرعةِ التوتّرِ المَصحوبةِ بنوباتِ فَرطِ الاضطّرابِ، وكَثرةِ التشكّي المُلاحَظِ؛ وبين نقائضِها الحِسان: أجملِ مَشاعِر أنماط باقةِ السلوكياتِ الإيجابيةِ المُفاجئةِ: كالشّعورِ المُؤقّت بمَظاهرِ الأُنسِ، ولَحظاتِ السعادةِ. وثانيها: اهتمام الشخصيةِ المُتقلبةُ المُتكدّرةُ المزاجِ ذاتِها، برغبةِ تعديلِ وإظهارِ نمطِ المزاجِ الوقتِي المُطابقِ المُسايرِ، حَسَب نهجِ مشاعرِ الآخرين؛ ليَنالَ ويَنعمَ صَاحبُها، بمِظلّةِ القَبولِ والانسجَامِ اللّحظِي، وَسط جُمعةِ الحاضِرين مِن حَوله. وثالثها: تطابُق، أو تعارُض تصرّف الشخص ذاتِه، مع مشاعر الآخرين مِن حوله، حَسَب طبيعةِ مَدّ نَسقِ هَبّات مٍزاجِه الراهنةِ… بمعنَى، إذا كان مزاجُه المُستحوِذ مُتلوّنًا مُتكدّرًا، مُنذ بداية ساعاتِ يومِه الباكِرة، انعكست هيأة ذلك السلوك الذهنِي الغامِر سَلبًا، على جُلّ طرائقِ تعامُلِه مَع سائر الناس، على أساسِه؛ وعلى العكسِ مِن مَدخلِ ذلك المنحَى المُتعكّر النزِق، المُتمثّل بنشرِ سَحائب أَنينِ النّكدِ؛ وإشهارِ طَنينِ طيّاتِ التشاؤمِ؛ واستحواذِ عِباراتِ سَخطِ التبرّم؛ واستجواد ذائقة السخرية والتهكّم، بشخوص الآخرين، ووَصفِهم بالنقصِ والدونِيةِ؛ وجَرّ آلام، وأسقام مُعاناة أزمة الاكتئاب السوداوية؛ أمّا إذا كانت ذائقةُ مِزاجِه رَائقةً مُسترخيةً، انعكست عليه حَالاتُ الصفاءِ، وهُنيهاتِ النقاءِ إيجابيًا؛ لتَصفَ وتُجمّلَ أنماط باقةِ أساليب خُصوصِيةِ تَعاملهِ الاجتماعيةِ الصّحيةِ المُؤقّتةِ، مَع صَفّ الأفرادِ مِن حَوله. ورَابعها: يُلاحَظ بوضُوحٍ، شِدّةِ حَساسيةِ وصُدُودِ الشخصِ المزاجي، في مُنابذةِ ومُواجهةِ مَن يتعامَل معهُم، بحيث لَا يَستطيع استمرارَ وضبطَ صَفو نمط وتِيرة مشاعِره الظاهرةِ؛ وتَهذِيب نقاوةِ حِدّة فَورةِ مزاجِه الساحقةِ؛ أو تلطِيف ”نرفزته“ الغاضبةِ؛ لإحداثِ درجةٍ مَقبولةٍ، مِن التوازُن المُعتدِل، والتكيّف اللّحظٍي المُحتمَل، مع سَائد مشاعر الأخرين… ورَابعها: أنّ الشخصَ المعنِي نفسّه، مُفرطُ الحساسيةِ، لَا تراهُ يَتحمّل كَلمةً جَارحةً عَابرةً؛ أو يَتصّبر عِبارةً ناقِدةً نافِذةً، تمرّ بنمطِ نغمتِها ”الاعتيادية“ داخل إطارِ مُغلّفها المُنمّق الخاطِف، مُرورِ الكِرام».*
وتَلُوحُ في عَنانِ آفاقِ فنّ التعاملِ العقلانِي المدرُوس، في سِيرة مَنهجِ ”الذكاء العاطفي“ المُبرمَج، جُملةٌ مِن الأساليبَ والطرائقَ المُثلى المَحمودةِ؛ لذا ينبغي إبداء وإبانة نزعةِ التفهّم؛ وإسداء فِطنةِ التعقّل المُربّيتين، لِمن يتعامل بشكلٍ مُباشرٍ، معَ طائفةِ تلك السُلوكيات الشخصيةِ المزاجيةِ المُتذبذبةِ، أنُ يُؤمّنها قَبولًا؛ ويُسايسها مُداراةً؛ ويتعامل مَعها، باحتِرازٍ واحتِراسٍ؛ تَزينها رُوح المَرحِ، وتُؤطّرها حُسن الدُّعابةِ؛ ويُلطّفها مزاج التسلِيةِ؛ لٍتجنّب طَفرةُ تصاعُدِ، وتَفاقُمِ، وتَعاظُمِ رِزم مَوجةِ مُتلازمةِ الأعراضِ الظاهرةِ المُقلِقةِ سَاعةً، لِكِلَا الطرفَين: المُعاشَر والمُعاشِر... هذا، وإذا وَاكبت حِدّة المزاجِ المُتغيّرةِ دَيدنًا قَائمًا مِن نَسقِ المُداومةِ، وصَارعتُه نَمطُ الاستمراريةِ، بحيث يعجَز الشخصُ المزاجي ذاتُه، عَن بُلوغِ دَرجةِ الضبطِ، ومِعيارِ التحكّمِ الذاتيين، استوجبَ لِزامًا، على مَن لهُم عَلاقة مُباشرة معهُ، كالزوج والولد، مَعرفةِ الأوقاتِ الحرِجةِ، التي تتصاعدُ فيها شِدّة الحالةِ المَاثلةِ؛ لتفادِي استمرارِ التواصلِ النشطِ، معَ حالةِ الشخصِ المزاجي، رغبةً صادقةً - مِن أطراف المُتعاملين معه - في إضفاءِ مَزيدٍ مِن مدّ بُسُطِ التهدئةِ؛ وبَسطِ فُرُشِ زَرابيّ الراحةِ… «وكذلك التعامل مع شخصهِ بشيءٍ مُبادرٍ مِن الفِراسةِ، بقراءةِ لُغةِ الجسدِ؛ واستِقصاء نَبراتِ الصوتِ؛ والابتعاد الواعِي عن كيلَ مَوجاتِ الانتقادِ الصارِخة، ومِثلها المُعاتِبةِ الجارحةِ، وأساليب المُواجهةِ القاهرةِ… تلك المَشاعرِ السلبيةِ المَحمومة بالهُجومِ القادِح؛ والمَوقُوتةِ بمشاعر التعاطُف والاهتمام الزائد؛ ممّا يعزّز إيجابيًا سقفَ مُستحثّاتِ ومُحفّزاتِ أنماط تلك المُخرجاتِ السلبيةِ، في قاعِ اللّاشُعور… وعلى العكسِ مِن ذلك التوجّه تمامًا: بثّ الارتقاء الواعِي المَشمُول بدرجةٍ مِن اللّيونةِ، ومِثلها التفهّم المأمُول، لوأدٍ مُناضلٍ لنهجِ تلك التصرّفاتِ الشاذةِ؛ والتواصلِ الجادِ، مع مُثيراتِها، بضبطِ النفسِ وسَويّةِ التعامُل… ومِن الجانبِ الآخر، استخدام واستقدام استراتيجيات مُثلى مِن قواعدِ فنّ الحٍوار الهادئِ المُناسبِ، مَمزُوجًا بفنيّاتِ وطرائق الذكاءِ العاطِفي المحمودةِ!».*
ولَعلّ مِن جُملةِ الحِيل الدفاعيةِ الذاتية، التي قد يَلجأ إليها الفردُ المزاجي، هي سِمةُ التحدّثِ إلى النفسِ، واستعادةِ شَريطٍ مِن نمطِ الأحداثِ الضاغِطةِ، وغير السارةِ، رغبةً ذاتيةً مِنه لتخفِيف حِدّة التوتّر، وتلطِيف نَزعةِ الانزعاجِ النفسِي المُتمركِزتين في دَواخل نفسِه… ومَمّا يُساعد ويُعزّز نسق تلك الحيلِ المُصطنعةِ الذاتيةِ، مُساندة المُتعامِلين - مِن حوله - بشكلٍ مُباشرٍ: كالتجاهُل، والتباعُد المَكاني، عن مُحيطِ حُضورِه، خاصّةً في أوقات انفلاتِ ذُروةِ التذمّر، وتصاعدِ الهَبّاتِ الانفعاليةِ المُتعاليةِ… وربّما يُفلحُ ”الذكاء العاطفي“ المُوجّه باستقطابِ بعضٍ مِن الحيل العمليةِ المُساعدةِ في رسمِ سلاسةِ التعاملِ مع نفسيةِ ”الضيفِ“ المزاجي: نفسيًا، ووِحدانيًا، واجتماعيًا، بمزيدٍ مٍن حِنكةِ الوعي النفسي، وحِكمةِ التعامل الاجتماعي؛لاحتواء واستيعاب سلّة التصرّفات السلوكية المزاجية المُحتملة في داخلةِ نفس ”المزاجي“ كي تبدو ثُلّةُ المُتعامِلين مِن حوله، كصَفاء صفحةِ المِرآة النّقية العاكِسة، قَلبًا وقَالبًا… ورُبمّا تُفضِي تَحسُّنًا، حالةُ المزاجي الشاخصة، إلى تدخّل جَلساتِ المُكاشفةِ العلاجيةِ، في كنفِ أحضانِ سَير ”كورس“ المُعالجةِ النفسيةِ المُتخصّصةِ… وفي ذلك الإجراء المُنقِذ، تكمنُ آخِر لَسعاتِ الكيّ المُنتطرةِ؛ وحِينئذٍ تنتصرُ بامتِيازٍ لافِتٍ، ذائقةُ المزاجِ المَحظِية؛ وتنكسِر بانحيازٍ لاحِبٍ، ضائقةُ نَقيضتِها المُحقّرة… والله في عَونِ العبدِ، مَادامَ العبدُ في عونِ، ورِعايةِ، وحِمايةِ أخيه؛ وبالله التوفيقِ، ومِنه إنجاحِ غايةِ المَقصِد...!