حلب السراب
خطر الليل شهرزاد فقومي قصري منه بالكلام المباح
واترعي الكأس بالسراب فإنا بشر مغرمون بالأشباح
مالنا واللهيب تلك هوايات شباب مسير الأطماح
قد شربنا من القناعة كأسا عنبيا يزري بصفو الراح
وركبنا الصبر الجميل سفينا تتهادى لمرفأ الإصلاح
هللي يا جباهنا قد محونا الفرق بين الذرى وبين البطاح
هذه الأبيات من قصيدة قيلت عام «1962م» وبالتأكيد هي أقدم من قول الشاعر الشعبي «من عطشهم على الما يحلبون السراب» ولكني استعرت «حلب السراب» عنوانا لهذه الأبيات، التي كما ترى موضوعها يتعلق بالسراب.
منذ القدم استخدم السراب تعبيرا عن الخداع البصري. ومن أجمل ما قيل فيه هو قول عمر بن أبي ربيعة «وقعدت كالمهريق فضلة مائه/ في حر هاجرة للمع سراب» غير أن شاعر الأبيات أعلاه خالف جميع من استخدموا السراب للخداع فنقل استخدامه، نقلا صوفيا، من الخداع البصري إلى العشق الوجداني والهيام والاكتفاء، ولهذا استعاد ذكرى شهرزاد التي استخدمت الوهم «= السراب» لإنقاذ الحياة، وإعادة شهريار إلى إنسانيته.
هل تود أن تركب الزورق الذي ركبه شاعر الأبيات؟ فتريح نفسك من عبء التفكير، ومن ثقل القيم الفادح، وتخترع أصباغا عديدة: فصبغ لليل حتى يتحول لونه إلى البياض، وآخر للجبن حتى يصبح شجاعة، وثالث لوجهك حتى لا تهرب منك الفتاة التي أحببتها، كما هربت لميعة عباس من السياب، فراح يذرف الأنين «وتلك؟ وتلك شاعرتي التي كانت لي الدنيا وما فيها / شربت الشعر من أحداقها ونعست في أفياء / تنشرها قصائدها علي / وأقرأ وهي تصغي والربى والنخل والأعناب تحلم في دواليها / تفرقت الدروب بنا نسير لغير ما رجعة»
نسيت أن أذكر صبغا مناسبا للمواقف الصعبة، مثلا: حين يصعب عليك تذكر كلمة من تلك الكلمات «التي انقرضت من لسان العرب» كما يقول محمود درويش، توكل على الله، ورش على تلك الكلمة وأخواتها ماء اللامبالاة، لا ماء الملام الذي عناه أبو تمام، فتسفر لك عن وجهها المليح، ويرن في أذنيك صوت المطرب محمد زويد، وهو يلعلع «كل ما يفعل المليح مليح»
لقد أصبح السراب عند الشعراء رمزا للتعلق الوهمي بشيء ما، تعويضا وتسترا على العجز، ولكني أخالفهم جميعا، وأعتقد أنه ملجأ لمن يريد الحياة في حدائق الراحة.