عفاف 4
كنت جالسة في غرفة السكرتيرة، والقلق يراودني، والحيرة تأخذني بين المغادرة والمكوث، هذا المنظر لا يطمئن... ولكني تعبت، لقد تعبت، فمنذ أربعة أشهر وأنا أبحث وأبحث عن وظيفة جديدة، تذكرت تلك الدوائر والشركات والمؤسسات والمحلات التجارية التي قابلت طلبي بالرد السلبي..... معذرة لا توجد وظيفة في الوقت الراهن، هذه هي إجابتهم، وبعضهم أخذ يقول دعي ملفك هنا حتى يتسنى لنا الاتصال بك...
قطع حبل الذكريات خروج شاب في نهاية العشرينات من عمره، كان غاضباً وكأن الشرر يتطاير من عينيه... نظر إليّ وقال: ربما يحالفك الحظ...
غادر المكان وأطلق ضحكة ساخراً وقال: رزقنا في السماء...
اقتربت مني السكرتيرة وقالت: ألن تدخلي لم يبق سواك... هيا ادخلي وربما يحالفك الحظ....
قلت في نفسي: وأي حظ هذا الذي يقصدانه؟!
ترددت كثيراً عندما أردت فتح الباب، وأخيراً تغلبت على خوفي وفتحت الباب لأجد نفسي وسط مكتب في غاية الأناقة ولكن رائحة السجائر تفوح منه... ألقيت عليه التحية....
وأجابني بصوته الأجش: أهلاً وسهلاً تفضلي بالجلوس... أم أنك تفضلين الوقوف؟!
وأخذ العرق يتصبب مني...
ازداد خوفي... لا أعلم ما السبب.... بدأ حديثه: لماذا أنت خائفة؟ لهذه الدرجة شخصيتي تخيفك؟
أجبته: عفواً ولكن التكييف بارد في مكتبك...
هذا صحيح لقد طلبت منهم أن يخفضوا درجته، ولكني لا أعلم ما السبب في تأخرهم!
دعينا من هذا لقد رأيت ملفك وأعجبت كثيراً بمؤهلك إلا أننا لسنا بحاجة لمثل هذا التخصص، فالوظيفة الشاغرة لا تتطلب هذا التخصص، ولكن لدينا وظيفة تناسبك، بعد إجراء بعض التعديلات... وأنت يا أستاذة عفاف لديك القدرة لإحداث تلك التعديلات بما يتناسب مع الوظيفة الجديدة... لقد قرأت عن إنجازاتك في الوظيفة السابقة ورأيتك مثالا للجد والاجتهاد والإبداع...
قلت في نفسي: كلام جميل، ولكن ما سبب خروج ذلك الشاب وهو في غاية الانزعاج من هذه المقابلة، أظنه لم يكن لبقاً في حديثه، فهذا المدير غاية الأدب واللباقة...
توجهت إليه وقلت: أشكرك على حديثك هذا ولكن هل لي من سؤال؟
أجابني: بكل سرور.
قلت له: متى أبدأ العمل معكم؟
أجابني: يبدو أنك على عجلة من أمرك، حسناً من الآن تستطيعين أن تمارسي عملك وبكل حرية، وسأتصل بالآنسة نسرين لكي تعرفك على طبيعة عملك، وما هي التعديلات الواجب عليك أن تعمليها.
ثم سكت برهة من الزمن في انتظار الآنسة نسرين، ثم التفت إلي قائلاً: إن أمرك لغريب حقا، إن معظم الموظفين يسألون سؤالاً جوهرياً بينما أنت لم تتطرقي له!
سألته: وما هو يا أستاذ؟
أجابني: الراتب، ألا تريدين معرفة كم سيكون راتبك؟!
أجبته: هذا لا يهم المهم أن أجد وظيفة مناسبة، ولكن لي سؤال آخر ما هي التعديلات التي تتحدث عنها، والتي يجب عليّ أن أعدلها؟!
ضحك، وقال الأمر بسيط جداً، عليك أن عليك أن تستبدلي هذه الخيمة السوداء بفيلا أنيقة... فيلا بها الألوان الجذابة...
سألته عفوا: لم أفهم ماذا تقصد؟ّ!
أجابني ضاحكاً:
أتمنى أن تعملي بحرية من دون قيود... تعاملي مع المراجعين من دون أي إحراج... لا تدعيهم ينفرون منك، بعبارة أكثر دقة: تخلصي من هذه الخيمة السوداء وأقصد بها هذه العباءة البالية، عليك أن ترمي بها في الزبالة... الموظف الذي يعمل معنا يجب أن يكون أنيقاً، وليس شاحباً...
اتسعت حدقتاي... ثار بركان بداخلي...
صرخت في وجهه: ألا ترى أنك تعديت حدودك...
أهكذا أنت تريدني أن أبيع قيمي ومبادئي بهذه الصورة، بثمن بخس.
وما أن أكملت كلمتي هذه حتى ثار البركان ليقذف بالحمم ويكشف عن طبيعته الشيطانية... صار يصرخ... ويصرخ... اخرجي اخرجي.
لم أقبل الإهانة ولم أتعلم السكوت والوقوف مكتوفة الأيدي أمام من يتعدى على إنسانيتي وقيمي...
وقفت بكل شجاعة وقلت: لقد صدق ربنا حين قال عنك وعن أمثالك ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: آية 19,20]
وعند سماعه هذه الآية التي كانت كالصاعقة التي قصمت ظهره ازداد صراخه، حتى احمر وجهه وصار يصرخ أقول لك أخرجي من مكتبي يا.....
خرجت من مكتبه ولا زلت أغلي بداخلي... حتى تقابلت مع السكرتيرة نظرت إليها وقلت: مسكينة أنت.. خيمة سوداء بها عزة وكرامة خيرٌ من فيلا بها ذلة ومهانة..