الأسطورة وطنا
لم تكن مفردة الوطن واضحة في القاموس. وقد أشار أبو تمام إلى مضمونها، لأول مرة، بقوله: «كم منزل في الأرض يألفه الفتى / وحنينه أبدا لأول منزل» ولكن ابن الرومي حولها إلى مفهوم حين أوضح سبب الحنين في قول أبي تمام بقوله: «وطن صحبت به الشبيبة والصبا / ولبست ثوب العيش وهو جديد / فإذا تمثل في الضمير رأيته / وعليه أغصان الشباب تميد»
في تطور المفهوم تبلور معنيان: الانتماء للوطن والولاء للوطن والفرق بينهما أن الانتماء لا يتضمن الولاء بالضرورة كما أوضحت الدكتورة جنان التميمي. وقد عبر عن الولاء للوطن أمل دنقل «هي أشياء لا تشترى / ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك / حسكما فجأة بالرجولة / تلك الطمأنينة الأبدية بينكما..»
أتوقف عند قول دنقل «الطمأنينة الأبدية بين المواطن وأخيه المواطن» هل يشعر بها المستوطن الصهيوني في فلسطين؟ الواقع يقول: كلا. لأنه ينتمي إلى أسطورة لا إلى أرض؛ لذا ترى الحشود منهم يهربون من هزة، مهما كانت غير فاصلة. وقد أكد الفيلسوف اليهودي سبينوزا أن التوراة التي تقوم عليها أسطورتهم مجرد تصورات لأناس مدّعين وليست وحيا من الله.
يقول دارون: «إن الفارق بين الإنسان وبين الحيوان هو الضمير» والضمير في تعبير فرويد هو «أنا العليا» وهي لا تتكون في الإنسان إلا من خلال المجتمع، حيث يتبلور البناء النفسي المشترك بين المواطنين. فمعناها سوسيولوجي، وشرط تكونها هو الولاء، لا مجرد الانتماء. والفرد اليهودي، بناء على هذا، لا يتكون عنده ضمير؛ لأنه لا يشعر بالألفة بينه وبين المجتمع في مكان الانتماء؛ مكان الولادة؛ لأن ذلك مشروط بالولاء، وهو لا يملك هذا الشعور. إنه يفتقد «الطمأنينة الأبدية» بينه وبين المجتمع الذي هو فيه. إن وطنه هو الأسطورة، أي العالم الميثولوجي الذي يجعل الزمن ثابتا. ويجعل الفرد الذي يعيش فيه خارج التاريخ الاجتماعي.
إن كل صهيوني يحمل بطاقة الانتماء لوطنين أو ثلاثة، ومع ذلك، لا يشعر بالطمأنينة؛ لأن ولاءه ليس لأي بطاقة يحملها. وذلك سبب ما أسميه «العقدة اليهودية» أو «القلق اليهودي» مقابل «القلق الوجودي» الذي يعانيه من يفكر بالحياة وتقلباتها.
الانتقام بهدم البيوت على أصحابها بالقنابل الأميركية ليس شجاعة. إنه فعل جبان. يقول محمود درويش: «لا تكتبوا علينا وصايا الإله الجديد / إله الحديد / ولا تكتبوا معاهدة للسلام مع الميتين / فلم يبق منهم أحد / يبشركم بالسلام مع النفس والآخرين».