الفشل.. المعلم الأول في الحياة
في مثل هذه الحياة المزدحمة بأشكال وألوان النجاحات والخسارات والطموحات والخيبات، فتلك طبيعة الأشياء وسيطرة الظروف، الكل يبحث عن جادة النجاح، ولا أحد يُريد أن يسلك طريق الفشل، في تلك البقعة السوداء التي لا تنبت غير الشوك والمرارة.
الفشل هو ”المعلم الأول“ الذي يُعلمنا كيف ننجح! نعم، تلك هي الحقيقة المرة التي لا يُريد أحد الإيمان بها، فضلاً عن تصديقها. الفشل هو خير من يقوم بتلك المهمة الصعبة التي تتطلب قدراً مناسباً من المعرفة والرغبة والقدرة والصبر والاستمرارية وهي صفات وملكات يجب أن يتحلى بها كل من أيقن بأن الفشل ليس إلا محطة - وقد تكون عدة محطات - في طريق النجاح والانتصار.
والنجاح والفشل، حقيقتان تُعبران بصدق وشفافية عن واقع الحياة الطبيعية التي نعيشها كأفراد وجماعات، ومكونات ومجتمعات، وشعوب وأمم، لأنهما يُمثلان التجربة الإنسانية والحضارية التي استطاعت التكيف والتوافق بين الحالتين للوصول إلى غاياتها وأهدافها. وقد وصف ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الشهير النجاح والفشل بشكل في غاية الذكاء والحكمة حينما قال: ”إن النجاح هو القدرة على الانتقال من فشل إلى فشل دون أن تفقد حماستك“.
والكتابة عن النجاح أو الفشل قد تبدو مثيرة وحماسية، ولكنها عادة ما تقع في فخ التنظير والإنشاء، أو تكتفي بعبارات ومقولات النجاح والإلهام، ورغم أهمية وتأثير الكتابة بإلحاح وتركيز على مظاهر ومقومات النجاح من جهة، وعلى ملامح وأسباب الفشل من جهة أخرى، إلا أن قصص الناجحين - الذين نسجوا من خيوط المعاناة والفشل حكايات ملهمة نقشت أسماءهم في سجلات الخلود - هي الأكثر متعة وفائدة.
كثيرة وعظيمة هي قصص/ نماذج الإلهام التي تستحق أن تُروى على مسامع الزمن، علّها تُثبّت البوصلة باتجاه الأمل والإنجاز، خاصة للأجيال الشابة التي تحتاج إلى القدوة الملهمة والُمثل العليا.
مثالان فقط وبشكل مختصر عن القدرة الهائلة التي قد تصنع من الفشل محطة للانطلاق إلى فضاءات النجاح. كان جوزيف الابن الأكبر بين ستة أطفال لأب يعمل خياطاً بسيطاً، وأمه ابنة مزارع فقير تُوفيت وهو في الخامسة، وقضى سنواته الأولى مع جده لتخفيف الأعباء عن عائلته المعدمة، وتبنته خالته التي لم تنجب أطفالاً بعد أن تزوج أبوه أخرى، واضطر لترك المدرسة لإصابته بمرض السل الرئوي، ولكنه أصبح بعد تلك الحياة القاسية أحد أعظم المفكرين والكيميائيين على مر العصور، إنه المفكر والكيميائي الإنجليزي الشهير جوزيف بريستلي أحد أهم العلماء التجريبيين المؤثرين في القرن الثامن عشر، وصاحب الإسهامات العظيمة في حقول العلوم والتربية والفلسفة والتاريخ.
شاب هائم على وجهه في شوارع أوروبا يعاني الفقر والجوع والتشرد، يلتقط العُلب والزجاجات الفارغة الملقاة على الطرقات ليبيعها للحصول على بعض المال، لكنه بعد سنوات من تلك الحياة البائسة أصبح أحد أهم وأغلى الكتّاب في العصر الحديث، إنه الروائي والصحافي الشهير غارسيا ماركيز أحد أشهر الروائيين العالميين والحاصل على نوبل في الأدب.
النجاح والفشل أو الفشل والنجاح، متلازمة أزلية وحقيقة وجودية، ولكن البشر هم من يُقررون سيطرة واستمرار أحدهما على الآخر.