آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

تاروت حزن مأتم

عبد العظيم شلي

أرواح ترحل وأنفس لا تدري متى يحين الأجل، طارق المنية يأتي بغتة دون استئذان، فالموت قرين الولادة، يوما ما لا بدَّ من الرحيل، وكل له عمره المقدر، تسليم نقر به إيمانا، لكننا نفر من الموت، ونتشبث بالحياة، وخير مثال، حين نسمع بخبر وفاة أحد الإخوة أو أي إنسان خدم المجتمع، لاشعوريا نأسى نتحسر، نتوجع، ويتعاظم الخطب عند رحيل عزيز، أو صديق مقرب، يكون الألم مضاعفاً، نبكي حسرة، وتحمر العيون، وكأن أحد أنوار حياتنا قد انطفأ.

وتحت وطأة الأوجاع نهيم باسترجاع شريط الذكريات، نعيد مشاهد تلو أخرى، نتغنى بالمواقف التي جمعتنا معه، وكم نعاتب بعضنا، حين نكثف من ذكر الخصال، ونبرز المحاسن ونسهب في مكانة من فقدنا، وينبري السؤال أين كنا عنه، وهو على قيد الحياة!

هي ليست مثلبة تختص فينا، هذا عرف متبع في جميع الأوطان، حين تغادر شخصية مرموقة، وإن كانت معروفة عند الجميع، يراق الحبر مدرارا في تدبيج عبارات وجمل وأسطر، وقصائد وأبيات شعر، وينبري الفعل الناسخ «كان.. وكان» بسياق إيقاعي يتردد كلطمية على الصدور، استرجاع الراحلين هو إعادة رسم خارطة حضورهم، ومواساة لأنفسنا المكلومة، تقليب صورهم الجميلة محاولة واعية لنبقيهم أحياء في الذاكرة.

في غضون الأيام الماضية فقدت تاروت أربعة رجال على نحو متلاحق، نصحو على خبر وفاة أحدهم إلا، ويأتينا في اليوم التالي خبر رحيل آخر، ويتبتل اللسان بأنفاس موجوعة، الحكم والأمر والمرجع كله لله.

ما أن اقتربت نهاية شهر ربيع الأول إلا ونداء الموت يخطف روحاً بعد روح، ففي يوم الخميس المصادف 27 ربيع الأول رحل «أبو ناصر» حجي عبدالله منصور جليح، هذا الإنسان البسيط رشيق القوام قوي العضل، قضى معظم حياته في مدينة رحيمة، لقد رأيته يجوب ”صكيك“ السوق القديمة حين كانت مبنية من الأخشاب، لا يهدأ مع أخيه الأكبر علي جليح في تحميل وتنزيل الأغراض للباعة والمشترين، بعد مدة زمنية احترقت السوق فانتقل الباعة، وجلهم من تاروت وأنحاء القطيف إلى السوق الجديدة، بناء مسلح، بقي أبو ناصر ملازما للسوق بينما أخيه غادرها للعمل في حقول مزارع تاروت.

دكان والدي أصبح ”ملفى“ إلى أبي ناصر، محطة استراحته من عناء العمل، يأنس كثيرا في الحديث معه، وحين قلت حركة السوق بعد سنين راح يقلم أشجار حدائق منازل أهل رحيمة ويعتني بترتيبها وتنسيقها، حتى بات يعرف كل البيوتات، لا يستغنون عن مناداته: ”حياك أبو ناصر البيت بيتك“، ألفه الجميع لحسن طيبته وإخلاصه في العمل، شخص ذو نفسية مرحة مفتونا بالفن الأصيل فقد كان أحد أفراد فرقة عبدالله سعود للفنون الشعبية بتاروت التي كانت تحي الأعراس والمناسبات الوطنية.

ذات صباح حين كنت طفلا في حدود السابعة جالسا في دكان والدي، بهرني بحركة عجيبة ولحد الآن لم أعرف سرها، يستخرج من علبة دخانه ورقة القصدير الصغيرة التي تغلف ”السجاير“ ويقوم بلفها ويشكلها على هيئة كأس ذا الرقبة الطويلة من غير مقبض ويدعك القاعدة دعكا ثم يرمي بالشكل عاليا لتلتصق قاعدة الكأس بالسقف البارز من الدكان يكرر هذه الحركة كلما اشترى علبة جديدة حتى امتلأ السقف بالكؤوس القصديرية المعلقة، مقلوبة الشكل، تساقطت تباعا بعد مدة زمنية.

أي سقوط مدوي في ذاكرة أهل البلد لما جرى على والده حجي منصور ”حفار القبور“ ففي يوم قائظ لسنة عدت من أعظم سني الحر، وبينما هو يحفر قبرا لأحد المؤمنين وبعد الاكتمال خرّ صريعا على وجهه في القبر ولم يكن أحد بجانبه، حين أتى الرجال حركوه، ولكن الروح ارتحلت إلى بارئها!

”منصور جليح راح يحفر قبر صار القبر له“، بكته زوجته أم علي قارئة القرآن بصوتها العذب.

وهي إحدى زائرات بيتنا رغم كبر سنها لم تقطع الوصل، إن كان أبو ناصر أنس لوالدي فأمه أنست لوالدتي بفيض من الحكايات، وكل اجتماع لا بدَّ يوم من وداع.

ودعنا يوم الخميس وجاء يوم الجمعة 28 حاملا الخبر التالي: «انتقل إلى رحمة الله تعالى الشاب محمد عبدالله علي أحمد حيان عن عمر ناهز 47 عاما بعد تعرضه لأزمة مفاجئة خلال مباراة في ملعب الحواري».

إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمات يوم جمعة تتنزل على روحك الشابة يا أبا هشام وهنيئا لك خدمة الناس، الأوساط الشعبية أحببتها فأحببتك، وجهك مألوف في تنظيم وترتيب ملعب الشمال بفريق الأطرش، واحد المشرفين على سير حراك الملعب تدريبا وإقامة مباريات الحواري، وما أن يلف الحزن البلاد في أيام عاشوراء نراك تهب في خدمة أبي عبدالله الحسين عبر مضيف ”قطيع الكفين“ في الدشة الشمالية ومتواجد مستمر في مأتم بن تركي لخدمة المستمعين وتهيئة المجلس في كل المناسبات الدينية، حيث الأخوة الصافية مع جميع أبناء العائلة، ومن محبتهم لك اعتبروك ضمن عائلة آل تركي وكانوا أول الواقفين في مجالس الفاتحة بعد رحيلك.

وما أن رحل عنا يوم الجمعة الا ويأتينا يوم السبت 29 بخبر نزل كالصاعة على القلوب،. «انتقل إلى رحمة الله تعالى العلامة الشيخ مهدي حسن عيسى مهدي المصلي عن عمر 63 عاما من أهالي تاروت سكان المدينة المنورة»، بعد لحظات من نشر الخبر المفجع ضجت القرويات، برسائل التعزية لفقد قائمة كبيرة، وأية قائمة فقدتها القطيف؟

كلما أقرأ مقالا عن شيخنا الجليل ازداد أسى وتوجع على مقدار محبة الجميع للشيخ وبصدق التعابير والمشاعر الجياشة التي فاضت با أجمل المعاني والتعبيرات من شعر ونثر وسرد سيرة.

عاتبت نفسى والكل من غير إفصاح لأحد خصوصا أيام الفاتحة من وضع لافتات براقة تزينها محيا الشيخ مبتسما، وتحت كل لافتة عبارات بليغة.

حتى ظننت بأننا لسنا في مجالس الفاتحة التي بلغ زمنها خمسة أيام لاستقبال أكبر قدر ممكن من المعزين الذين توافدوا من أنحاء القطيف ومن الدمام والأحساء والمدينة المنورة والبحرين.

مجالس عزاء تناوب في قراءتها مشايخ أجلاء تباروا في تبيان مكانة الشيخ برسم الكثير عن مكانته وقدر شأنه، حينها قلت آه، كان حري بنا لو تم هذا في حفل تكريم وهو على قيد الحياة مثل ما تم مؤخرا من تكريم للشيخ الشاعر عبد الكريم آل زرع أطال الله في عمره.

وهذان الشيخان أثرا في الساحة الشعرية كثيرا لكن الكلمة العليا للشيخ مهدي المصلي حيث أسس جيلا محبا للشعر فقد درسهم ”علم العروض“ والقافية، وكذا علم النحو والصرف.

وحسب أخي الباحث التاريخي غير التقليدي الأستاذ حسن أحمد الطويل الذي أفادني بالآتي: «بالنسبة لما سألتني عنه بشأن دراستي الشعر عند الشيخ مهدي المصلي تغمده الله بواسع رحمته، نعم فهو كذلك، وقد أولانا رعايته واهتمامه ومتابعته في هذا المجال، فتلقيت على يديه علم العروض وبعض فنون الشعر، وفي تلك الفترة التي تعود لما قبل 40 عاماً كان له اهتمام بنشر الثقافة الأدبية بين الشباب، وممن تتلمذ على يديه في هذا المجال الأخوة بشكل مباشر: علي موسى العمران، وأحمد نصر الحمود، وشفيق العبادي، وفي وقت لاحق معتوق المعتوق، وأيمن العرادي، وهناك أسماء استفادت من علوم الشيخ مهدي على نطاق واسع من ضمنهم، الشيخ ابراهيم آ آل حمود والشيخ زهير الدرورة، وجمال عبداللطيف، وغيرهم كثير، أما من أفاد منه على نحو غير مباشر فأضعاف ذلك بكثير»،أي طلابه قاموا بتعليم الآخرين من كل الجنسين، الجدير بالذكر بأن هذه الجهود المباركة قدمها بالمجان في رحاب بيت أبيه الحاج حسن المصلي الذي ورث عن أبيه صفات الخلق الكريم ومحبة الناس.

حين رحل والده قبل 7 سنوات كتبت مقالة بعنوان «وداعا يا كريم الأخلاق» منشورة في قطيف اليوم ومن ضمن ما قلته في نهاية المقالة.

«نم قرير العين ياحاج حسن فقد أنجبت أولادا بررة، وعلى رأسهم إنسان جليل، إنه سماحة الشيخ مهدي المصلي ذو المنزلة العظيمة أستاذ الحوزة، ونعم العالم الفقيه سيماء وجه من كرم وجهك الوضاء حسنا ودماثة خلق، غفر الله لنا ولك وسائر المؤمنين والمؤمنات ولآبائك وأجدادك أجمعين، رحمك الله ياحاج حسن يا صاحب الخلق الكريم، من مثلك لا يرحلون يقيمون فخرا في الذاكرة» مقالة نشرت يوم 25 أكتوبر 2017، وقد رحل الأب قبل هذا التاريخ بأيام معدودة عن عمر جاوز 80 عاما، وياسبحان الله في ذات الشهر يرحل الابن يوم 14 أكتوبر من عام 2023، أية مصادفة هذه! أصحيح الولد سر أبيه؟.

كم تمنيت لو تقارب الاثنان سنا على أقل تقدير، لرأينا إنجاز على إنجاز، ثمة مشاريع كانت تدور في رأس الشيخ، هادم اللذات كان لها بالمرصاد، ”ولكن ما على الموت معتب“.

برحيلك ياشيخ مهدي أدميت القلوب لوعة وحسرة، فأنت كبير بعلمك، كبير بتواضعك الجم، كبير بمنزلتك الرفيعة، كبير بإنسانيتك العالية، رحلت وما رحلت، ستقيم في العقول والأفئدة نبراسا وضاء لكل المتطلعين من أهل العلم وطلابه، وكل الطامحين في البذل والعطاء.

وبينما المعزين يتنقلون بين مجالس فاتحة الحاج عبدالله جليح وفاتحة الشاب محمد حيان، وتشيبع جنازة الشيخ مهدي المصلي يأتي خبر مفجع يوم الأحد 30 ربيع الأول: «انتقل إلى رحمة الله تعالى الشاب رضا محمد مهدي ابراهيم المحاسنة، إثر حادث مروري على خط الرياض من أهالي تاروت وسكان المنيرة».

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. شاب في عمر الورد مليء بالأحلام والأماني برسم خططا للمستقبل متفائل بالحياة، يخطفه الموت بغتة، ويترك أحزانا وأحزانا!

إيه يا رضا أيها الجامعي يا دمث الخلق أيها المحب للرياضة، بعد تخرجك من جامعة الملك فيصل عينت في ”داركوف“ أخصائيا في العلاج طبيعي تؤهل المرضى والمصابين جسديا ونفسيا، وتحثهم لتجاوز الآمهم بالصبر والرضا.

وفي ذات الوقت سجلت عضوا في نادي الخليج، لتكون مسعفا لأفراد الفريق الأول، تنطلق كالسهم حين يقع لاعب على أرضية الملعب لتعالجه بكل همة ومقدرة، صور حسابك تنبئ عن لقطات تسر الخاطر، يا رضا يا عاشق الرياضة لقد ورثت عن أبيك حسن التفاني في عالم الكرة فقد كان الحارس الأول لنادي النسر بتاروت، كنا نناديه باسم أحمد فدائيا في الذوذ عن مرماه وكذا كان عمك أستاذ إبراهيم رحمه الله، لعب حارسا لبعض الوقت، أما والدك فقد لعب ضمن صفوف النسر وأيضا فترة الهدى قبل وبعد التسجيل، حياته الكروية بدأت من عام 1965 وانتهت مطلع عام 1977م ثم غادر اللعب بهدوء تام متفرغا، للتدريس وعند العصر يصرف وقته بين أجواء القرطاسية.

يا رضا أية فرحة غامرة انتابتك حين سمعت من ابنك الوحيد لأول مرة مساء السبت وهو يتطلع إليك، وينطق ”بابا“ وهو لم يزل ابن سنة وبضعة أشهر، خرجت من الرياض مودعا زوجتك الدكتورة غدير بنت الدكتور علي الجنوبي، راجعا للبلد مرددا الله الله منتشيا بالفرح على إثر ترداد كلمة ابنك محمد ”بابا.. بابا“ كم تتخيله وأنت تناغيه وتدربه على الكلام، لكن فجأة في الطريق انطفأت كل الأحلام.

تخضبت بدمائك وحيدا في البيداء ووحشة الليل. يا رضا لقد أبصرت والدك في عزاء ضحى من اليوم السابع لشهر محرم بداية السبعينيات الميلادية، فرقة قادمة من الديرة آآتية إلى رحاب حسينية القلاف بالحوامي وعند منعطف بيت آل عمران دق الصدور يرج الأرض رجا ووالدك أحد ”شيالي“ العزاء يردد مع الجموع ”يا شباب الما تهنى بالشباب من دم العباس سووا له خضاب“!

عند توارد خبر رحيلك كنت أريد أن أبكي على كتف أبيك لأعزيه، وأي عزاء في دروب الفقد. رحلت يا رضا شابا مفتونا بالحياة والأحلام، رحلت ولم تبق لك أم لتبكيك ولا أب ينوح على قبرك فقد رحلا عنك في أيام كورونا اللعينة، وداعا يا رضا لحقت بهم، وأنت في عز الشباب، ويا شباب الما تهنى بالشباب، شموع الفرح انطفأت وعم الحزن البلاد.

الهي رحماك من هذه الأحزان، ندخل مجلس عزاء ونذهب إلى آخر، وكأن تاروت تحولت في لحظة زمنية لحزن مأتم، إلهي أشفق لحالنا الضعيف فقد عصف بنا الحزن وأردانا حيارى على قارعة النحيب، نخشى فتح صفحة الوفيات لكي لا نُفَاجَأُ بخبر رحيل شاب وشابة، فعيوننا جفت مآقيها.

اللهم الطف بنا، واصرف عنا السوء ”إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ“.