القناديل المطفأة
ورد عن الإمام الصادق : «ثَلَاثَةٌ يَشْكُونَ إِلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَسْجِدٌ خَرَابٌ لَا يُصَلِّي فِيهِ أَهْلُهُ، وَعَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ، وَمُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْغُبَارُ لَا يُقْرَأُ فِيهِ» [الكافي ج 2 ص 613].
المشهدية المقلوبة والتي تحمل صورا متعددة تمتاز بأنها لا تسير في الخط التكاملي والألقي للإنسان، إذ الكرامة الإنسانية من معانيها القيمة الرائعة ذلك العقل المفعم بالوعي والنضج في النظر للأمور، ومن ثم يستطيع أن يتخذ المرء الموقف أو الخطوة المناسبة وذلك بالنظر إلى النتائج المترتبة عليها، ولذا فإن المواقف التي تبدو غريبة أو مجهولة السبب في اتخاذها يعني وجود عامل اختلال واضطراب، وهذا العامل يدل على الابتعاد عن حاكمية العقل الرشيد وهيمنته، وتسلطه على خطوات ذلك الإنسان، ووجود قوة أخرى غير العقل تسيطر على سيره، وتتجه به نحو الطريق الخاطئ وارتكاب النقائص والعيوب، وإلا فإن الإنسان متى ما استطاع أن يضبط نفسه ومشاعره، وتحلى بالحكمة والهدوء النفسي فخطواته وكلماته ستكون موزونة، ولذا لا بد لنا من البحث عن تلك العوامل الهدامة التي يمكنها أن تجعل الإنسان يتخبط في خطواته ويعيش الضياع ويرتكب الخطأ تلو الآخر ويسجل الخسائر الفادحة.
العامل الأول هو الانفعال العاطفي والتوتر في مشاعره متى ما استفزه الآخرون في مواقفهم أو وجهت له إساءة، وبالطبع فإن المرء في لحظات الغضب الشديد يغيب عقله ويتصرف كالمجنون ولا يدري عما يفعله ويرتكب الأخطاء المورثة للندم، وكم من الخطايا نرتكبها في تلك الأوقات دون أن ندرك النتائج الكارثية المترتبة عليها، والرواية الشريفة وإن ذكرت نماذج للخصوم المشتكين يوم القيامة وذلك لمكانتهم العالية وما يتمتعون به من صفات رائعة ميزتهم، ولكن قائمة الخصوم تطول ومنهم من تهورنا واندفعنا مع مشاعرنا الملتهبة، فوجهنا له كلمة قاسية أو بذيئة أو شتم ما كنا نتوقع صدورها لو ضبطنا وجداننا المتوتر.
العامل الثاني هي الأهواء والشهوات المتفلتة والتي تحط من قدر وشأن الإنسان وتسلخه من رداء العزة والكرامة، وتحيله إلى حياة البهيمية والعمل على إشباع الغرائز، فذلك الإنسان المكرم بعقله الواعي والمدرك لحقائق الأمور والمشخص الحقيقي لخطى الإنسان يتم تحييده جانبا بسبب غلبة الشهوات وسيطرتها على دفة الأمور، ولا يدرك المرء حينئذ حجم الأضرار اللاحقة به ولا المستوى الذي انحط له بما لا يتناسب ومكانته اللائقة به، والعاقل - وإن لم يمتلك الوازع الديني - يحجم عن فعل كثير من الأفعال القبيحة والمعايب بسبب إدراكه للآثار السيئة الناتجة عنها، والتي تورثه الخيبة والانحطاط الأخلاقي والسقوط من أعين العقول الجمعية المنصفة، ومن أهم الخصوم المشتكين في يوم القيامة؛ بسبب استجابتنا السريعة لأهوائنا غير المنضبطة هي جوارحنا التي ارتكبنا بها الخطايا والآثام، وأوقعناها في أشد العقوبات والنقمات الإلهية في نار جهنم بما لا تتحمل معه لحظة واحدة من غضب الباري وعذابه الأليم، في الوقت الذي كانت تلك الجوارح نفسها عند غيرنا موطن طاعة لله عز وجل وخاضعة لإرادة العاقل، فما وقعت جوارحه على موطن محرم يغضب الله تعالى، وإن فعل ذلك هرع منيبا مستغفرا نادما على ما صدر منه.
والعامل الأخير هو الغفلة واستدارة الجهل من حوله فيحجبه عن إدراك الحقائق، فيغيب عنه الدور الوظيفي المناط به في الحياة الدنيا مما يسبب تغييبا لعامل الاستعداد الأخروي، ولذا نجد في الصورة المؤلمة التي ينسجها الإمام الصادق ما يشكل صدمة قوية لعل الغافل يفيق من الغيبوبة الفكرية والسلوكية، ففي يوم القيامة تنصب موازين محكمة العدل الإلهي ويتقدم الخصوم ليقدموا شكواهم وتظلمهم مما فعل به هذا الإنسان، والذي انتظم حاله بنفس غير مهذبة مما انعكس على مشاعره وجوارحه وفكره فكان ظالما لنفسه بالابتعاد عن طريق الهدى والصلاح والخيرية.
من مشاهد ومواقف يوم القيامة هو نصب موازين العدالة الإلهية فيتقدم من وقع عليهم الظلم، ويذكر لنا الإمام ثلاثة نماذج يطالهم الإهمال وقلة المبالاة بمقامهم الرفيع، وذلك ينم عن غفلة وغيبوبة في سلم وقائمة الأولويات والمسئول عنه في يوم القيامة، فذلك العالم العامل بعلمه والمتحلي بالأخلاق الرفيعة ينير العقول بالمعارف الفقهية والقرآنية والعقائدية، ويدعو باستقامته العملية وتجسيده لمكارم الأخلاق في أفعاله وتصرفاته إلى التمسك بالقيم الدينية يفقد دوره المحوري بسبب جهل الناس من حوله، وذلك المسجد يعد المأوى للروح لتجديد نشاطها وقوتها ويهبها المثابرة في طريق القرب من الله تعالى ولكنه يغيب عنه، وكتاب الله تعالى الدستور التوجيهي والتربوي بما يحمله من مضامين وقيم عالية، فكلما تأمل وتدبر في آياته الشريفة اكتسب معارف وسار خطوات في طريق تهذيب نفسه ولكنه يقابل النورانية القرآنية بالهجران.