حوار
كان القمر في شبابه، يطل ضاحكا على المقهى البحري، وكانت أمواج البحر قد تخلّت عن صخبها، حين التقى الواقع والخيال، وكل منهما يحمل على كتفيه شيئا يشبه العاصفة. لم أكن ملتفتا إلى لقائهما المكفهر، فقد كنت أردد، في ذهول، قول محمود درويش «كلما أصغيت للحجر استمعت إلى/ هديل يمامة بيضاء» وحين رأيتهما متأهبين للحوار قلت لنفسي: دع نشوة الشعر الآن وادخل في نشوة السماع لما يحدث بينهما من تراشق لغوي ساخر.
الواقع: أنت، يا رفيق الحالمين، ما الذي جاء بك إلى المقهى وأنت مثل الريح لا تعرف الاستقرار؟
الخيال: أنا أستقر أطول منك، فأنت تزول سريعا إذا غضت العين نظرها إليك، أما أنا فأنغرس في الذاكرة كنخلة مثمرة أبدا.
الواقع ضاحكا: أنت لا تغرس شيئا من صنعك، إنما تغرس ظلالي، فتكون من الذين يسكنون كهف أفلاطون، يسخر منك التاريخ.
الخيال: أرى أن الغرور يقودك إلى واد مقفر من الجهل المركب. ألا ترى أن العلوم والفلسفات والمعتقدات والآراء كلها من صنعي؟ وحتى فهم البشر لظواهرك لا يتم إلا بي؟ ألم تسمع الحكمة القائلة: «إن أردت الوصول إلى نفسك الجامحة / فلا تسلك الطرق الواضحة» أي اسلك طريق الاستبطان وهو طريق أنا أضع لكل فرد، حسب قدراته، الضوء إليه. ألا تدرك أن القيم الأخلاقية والجمالية لا يعبر عنها إلا عن طريقي، أي أنا الذي أحدد معناها. أنت لا تستطيع تحديد معنى الأبوة أو الأمومة، فلكل فرد معنى يختلف عن الآخر، إن معنى الأبوة عند نزار قباني غيره عند الحطيئة أو كافكا، ومعنى الأمومة عند أدونيس يختلف عنه عند محمود درويش. إن الفنون التي «هزمت الموت» كما يعبر درويش هي كلها من صنعي. لولاي لانعدم الفرق في النظر إليك بين زرقاء اليمامة وأي بقرة عجفاء. ألا تعلم أن بعض الفلاسفة قد اعتبرك وهما، ومجرد خداع بصري؟ وألا تعلم أني أنا الذي وضعت الرموز اللغوية الدالة عليك، ولولاي لكنت قابعا في المجهول؟ وألا تعلم أنه لولاي لعاش البشر في شقاء سببه أنت؟ لقد فتحت لهم أنا بابا للفرار من قسوتك وهمجيتك هو باب الفن، المعقول منه واللامعقول، إنه ملجأ الهاربين منك إلى جناتي الباسقة؟ لم ينته حوارهما، بل أنا الذي هربت من المقهى.