آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

قانون حماية الفقراء من التشهير..!

الدكتور محمد المسعود

تروي طبيبة موقف إذلال متعمد اقترف بحق جدها رحمه الله تعالى تقول: «لا زلت أتألم من صورة جدي وهو يمشي في انكسار، وذل مؤبد له ولكل أولاده وأحفاده، مع عشرات الفقراء من أمثاله أمام عدسة التصوير، لصحفيين من دولة أجنبية في مزرعة أحد الأثرياء الكبار، وفي يد كل واحد منهم ورقة ضمنها طلب العطية لأسباب مختلفة!. وإن الثري المتواضع باستقبالهم، والكريم في توثيق لحظة انكسارهم، وفضح فقرهم أمام العالم وأطفالهم، أكد للصحفيين الأجانب أن هؤلاء الفقراء والمساكين يأمره الإسلام دائما أن يحسن إليهم، وأن يعطيهم ويشفق عليهم!!». وأنه لا يجد حرجا في تصويرهم في مهانة وذل وبث هذا أمام العالم، وأن يبقى هذا التقرير المرئي يشاهده العالم مدى الحياة، إن كل محسن كريم وعظيم ومرائي بحاجة إلى فقراء بائسين، ويشهد العالم كله على لحظات تلقي عطاياه الكريمة!.

لقد كبر الأبناء، والأحفاد، وبات من ما لا يمكن العبور عليه أمام مجتمعهم وعوائلهم مشاهد الإذلال المتعمد لأبيهم. تلك العطية الشحيحة التي وصمته بالذل حيا، وتبعته إلى قبره ميتا!.

«جريمة الإذلال المتعمد للفقراء» وامتهان كرامتهم الإنسانية، والتشهير بفقرهم عبر وسائل الإعلام المرئي، من الجرائم الكبرى التي لا يعاقب عليها القانون، رغم أنها تعدي مباشر على حق أصيل من حقوقهم المصانة بقوة القانون كإنسان لا يجوز التعدي على ما يمس كرامته وقيمته المعنوية، وإن التشهير بضعفه وعجزه وهو في أسوأ أحواله، يتعدى الضرر لمعنوي إليه ليصل إلى أسرته بأجمعها، وبما لا يمكن رفع هذا الضرر بعد وقوعه على ضحاياه من الفقراء والمساكين الذين يتم عرضهم علينا بوصفهم «شيئا» صالحا للاستعمال المتكرر من قبل المرائيين ووسائل الإعلام!.

والملفت للانتباه أن الدول التي تعاقب على السب والشتم بوصفه من الأذى المعنوي الذي ينتهك كرامة الإنسان المصانة من قبلها، وهي المؤتمنة عليها، والمسؤولة مسؤولية مباشرة على حفظها، ومعاقبة المتعدي عليها!. هي بأجمعها لا ترى حرجا في تحويل الفقراء إلى مواد بشرية مجردة من المشاعر والكرامة، يستعملها المراؤون لإظهار فضيلة كرم مغشوش، وصدقة يتبعها أذى لا يتقبلها الله تعالى، ويردها على صاحبها، وله وعد بالخزي وذلا مؤجلا يصيبه.

وإن التشهير بالفقير وإهانة كرامته بالعطية، أوطأ وأخس من شتيمته وسبه، فهذه لا تتعداه لغيره، ولا يسمعها غيره، ويحمل أذاها وحده، وتلك جريمة إذلال متعمد له ولكل ذريته من بعده مدى الحياة.

هناك تصور أن المجتمعات التي تأذن بإذلال فقرائهم بذريعة تقديم المعونة لهم، منخفضة القيمة لذواتهم، وإن هذا هو السبب الجوهري في عدم خوف أو خجل المرائيين ووسائل الإعلام من تكرارهم اقتراف هذه الجرائم التي تتصف بالدناءة، والوقاحة بما لا سبيل للمغفرة لفاعلها.

ونحن في زمن اليقين الزائف، وزوال اليقين، أو تعذره فيما ينسبه الناس إلى أنفسهم من فضائل، فإني وإياكم نطالب بسرعة تشريع قانون حماية الفقراء من التشهير بهم، وتغليظ العقوبة على المرائيين. عاجلا ودون تأخير.

فقد بلغنا مبلغ تحويل الفقير من إنسان إلى شيء مجرد، شيء لا يغضب له أحد، ولا يثير انتهاك كرامته الإنسانية أحد، يتحرك إذلاله أمام أعيننا كالفراغ الذي لا يراه أحد، ليرد عن ضعفه، أو ينتصر لعجزه، أو يقف ليقول للمرائي كلمة حق تردعه، وهذا من أثقال الرزايا والمظالم في زماننا المسكوت عنها في زماننا هذا.