آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

قلوب تتنفس الحب

عبد الباري الدخيل *

”وتعتقد أنك أنتصرت، فتهزمُك.. كلمة“.

فتح قلبُه البابَ وأدخلها، لم يدع للعقل مجالًا ليبدي رأيه..

دخلت من الباب واستسلمت، رفضت الاستجابة لعقلها، وتمردت عليه.

وبدأ المشوار بخطوة، واستمر الطريق يسير بهما، والفصول تمرّ بسلام..

الربيع بجمال الزهور..

الصيف بحرارة الشوق..

الخريف بتساقط الهموم..

الشتاء بدفئ المشاعر.

نهار يتبعه ليل.. وشهر يتبع شهر.. وسنة تتبع سنة.. وهما يقتربان ولا يصلان.

وذات فجر وصلتها دعوة، صديقتها اكتشفت السر، وقد شمّت رائحة عطر الحب، فقررت أن تساعدهما.

كان جبانًا رعديدًا.. خاف أن يواجه أخته التي معه.. كيف سيواجه أمه التي تكره أمها؟

أحسّت بطعنة في كرامتها، وانكسر قلبها، وتحطم حلمها، ودارت بها الأرض، وهاجمتها آلام في المعدة كأنها تناولت وجبة فاسدة.

ألا يعلمون أن كسر القلوب موجع ككسر العظام؟

لم تمهل عقلها أن يفكر، تمردت على قلبها، غادرت وقد أغلقت الباب خلفها لأنها قررت ألا تعود.

لم تخرج من قلبه فقط، بل من الدنيا، رفضت كل العروض، واستسلمت لظلام غرفتها، وأوهام الكآبة.

**

تقول:

كان حبنا عابر لكل الحدود والتقاليد، كنّا مجنونين، وأي المجانين كمجانين الحب؟

مرة أخبرته بأنني سأشارك في مناسبة في مدينة مجاورة، فأصرّ أن يوصلني ويعيدني، اعتذرت بأن أخي سيوصلني، وهمست وطبول قلبي تدق: لكن يمكنك أن ترجعني.

خرجت من الصالة فوجدته يقف بين المنتظرين، كدت أن أرقص فرحًا، كنت أمشي وخطواتي بين الغيوم، وعندما مدّ يده ليمسك بيدي أحسست أنني أمسكت النجوم.

عند السيارة فتح الباب وقال بأدب وانحناءة سينمائية: تفضلي سيدتي.

ابتسمت، وقبل أن أجلس في المقعد الأمامي ملأت عيني منه، كان كالساحر الذي أخرج الأرنب من القبعة، أخرج كل المشاعر من داخلي ولولا الحياء لعانقته أمام الجميع.

في السيارة قلت له: أنت مجنون، وقد أصابتني العدوى فأصبحت مثلك مجنونة، كيف قبلتُ أن تمسك يدي أمام الجميع؟ وكيف ركبت معك السيارة ولم أتردد؟

ألم تخف أن يرانا أحد يعرفنا؟

قال بكل لطف: إنه الجنون يا غناتي.

قلت: صدق والله مجنون.

**

بعد سبع سنين عجاف، إلا من عواصف الذكريات، وزلازل الأوجاع، تقدم نحوها رجل أرمل، بيده طفلان وفتاة، وقال: هل تقبلين بي زوجًا، وبهما أولاد؟

لم تشاور عقلها، وفتحت الباب وضمتهم، وعادت الخضرة لأوراق الشجرة، وبدأت الزهور تتفتح، وابتسمت الدنيا قليلًا.

وبعد أن آمنت للسكينة، واستسلمت للأيام، وربطت يدها بيده، قال: إن أولادي أمانة في عنقك.. ورحل.

عند قبره وقفت تهمس: أيها الراحل أرجعني إلى مكاني قبل أن تختطفني، وتسافر بي إلى حدائق العشق المسحورة، ثم اخرج من حياتي، وأقفل الأبواب.

**

تقول:

بقيت أيام العزاء أسلي نفسي بمن حولي، فهذه أخت، وتلك صديقة، ومضت الأيام وبدأ الفراغ يتسرب إلى روحي.

كنت أجلس كل ليلة على طرف السرير، استذكر أيامي مع الفقيد وأبكي.

حتى طرقت الباب يد يتيمة، ودخلت على استحياء وقالت: ”ماما عادي أنام معاك؟“

هذه الكلمة أعادتني للحياة، عانقتها وكان قراري: لن استسلم للكآبة، ولن اتراجع عن النجاح في هذه المهمة.

صحيح أن أشياء جميلة تموت بعد كلّ راحل، لكن هناك رحمة الله التي تساعد على الوقوف مجددًا.

يوم ذاك تركت نوافذ قلبها مشرعة، فهناك أيتام وهنا قلب أم.