آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 10:22 م

يوم الإعدام «في الطريق نحو ساحة القصاص»

جلال عبد الناصر *

جلستُ على الكرسي المتهالك في الممرّ الضيق، الذي تمّ طلاء جدرانه حديثًا. فقد تخيّلت نفسي بأنّي في محطة وقود. فرائحة ذلك الطلاء الرخيص تسلّلت إلى رئتي لتبدأ عاصفة هوجاء في رأسي، وشعرت حينها بأنّي سوف أسقط على الأرض. وما إن حاولت التقاط أنفاسي إلّا وأسرة ”حسن“ تقتحم المكان في موكب جنائزي. تتقدّمهم سيّدة ترتدي عباءة رثّة، ومن خلفها أربعة من الرجال؛ جاؤوا لإنهاء الإجراءات الرسمية وإلقاء الوداع الأخير.

لقد كان منظرهم يبعث على الكآبة. فوالد ”حسن“ كهل ذو لحية بيضاء، قد استحال بياض عينيه إلى قطعة من الدم، وكأنّ أحدًا سكب عليها أسيدًا. لقد كان يستند إلى حفيده الذي هو الآخر يبحث عمّن يسنده. أما البقية فهما أخوة ”حسن“. فواحد منهم يحاول أن يظهر نوعًا من التماسك، وكان يدعو الله بصوتٍ عالٍ بأن يتنازل أهل الدم. أما الآخر فلا حول ولا قوة. لقد بدّد هذا المشهد رائحة الطلاء تمامًا، ورحت أعدّ نفسي لمشهد مفجع.

وقبل أن يدخلوا للغرفة أشار أحد رجال الأمن الذي كان يقف بجانب بالباب إلى أحد الموظفين كي يدخلوا المكان. وما إن دخلوا حتى بدأ الجميع بالصُّراخ والعويل، حتى ”حسن“ شاركهم في ذلك. ودفعني ذلك العويل للهروب بعيدًا. وفي أثناء هروبي سمعتها تقول: ”أمك تبلّغك السلام عليك يا ولدي، وهي لا تقوى على الحضور“. بينما كان والده يصرخ قائلًا: في رعاية الله يا ولدي. لو كان الأمر بيدي لطلبتُ من السَّياف قطع رأسي بدلًا منك". وما إن وصلت لخارج المبنى حتى شعرت بأنّي كنت غريقًا، وأنّ أحدًا انتشلني من قاع البحر.

جلستُ على العتبات الرخامية وغطّيت رأسي بكلتا يدي ووضعته بين ركبتي. وأبقيت نفسي على هذه الحال لدقائق. ثم رفعت رأسي من جديد، وأخذت نفسًا عميقًا كي أوهم نفسي بالاستفاقة. وما إن أخرجت آخر نفس حتى توقف إلى جانبي ”باص“ معتم نوافذه مطلية باللون الأسود. فعرفت بأنّها المركبة التي سوف تقود ”حسن“ نحو ساحة القصاص. ومن غير شعور هربت من المكان وعدت إلى الداخل من جديد وكأنّي شخص مطارد. وما إن وصلت للغرفة حتى شاهدت أسرة ”حسن“ تخرج لتتركه وحيدًا. وأشار لي العسكري بالدخول، فعرفت بأنه حان دوري «الصعب» وهو تهيئة إنسان لقطع رأسه.

دخلت مرتديًا عباءة المعالج النفسي التي لم يَبقَ منها غير الاسم فقط. سلّمت عليه ولكنه لم يردّ السلام. سحبت الكرسي وجلستُ مقابلًا له، إلّا أنه لم يرفع رأسه. فنظرت لساعتي ورحت أحدّث نفسي قائلًا: حسن، لم يعد لديك وقت. وهنا رفع ”حسن“ عينيه وكأنه سمع همسات قلبي. ولكن لم تكن تلك النظرات موجهة نحوي، وإنّما كانت لسيّدة سمراء تقف خلفي، لم أشعر بوجودها، ذات شعر أسود داكن. نزلت تلك السيدة بهدوء وجثت على ركبتيها ووضعت رأسها في حضن ”حسن“ وراحت دموعها تنهمر بصمت. لقد كانت تلك السيدة زوجته التي انفصلت عنه قبل سنة.

ولكنّ ”حسن“ لم يحرّك ساكنًا وكأنه يترقب قدوم أحدٍ ما. وفجأة قال بصوت غير مسموع: أين زينب؟ فراحت تلك السيّدة تبكي بصوتٍ عالٍ قائلة: لم أستطع أن أخبرها... وإذا بـ ”حسن“ يصرخ: أريد أن أرى ابنتي ”زينب“... ونظر إليَّ متوسّلًا وهو يقول: أريد أن أرى ”زينب“... ومشاعر الأبوة تلك من ”حسن“ ذكرتني بأنّي لم أتصل بالسائق كي أطمئنّ على أبنائي، فهذا وقت خروجهم من المدرسة. وراحت تقول له وهي تنوح: ”أبو زينب“... سامحني إن أخطأت بحقّك يومًا. وأنا أمام الله أسامحك على كلّ شيء، و”زينب“ ستكون في مأمن.

وفجأة دخل رجل ضخم الجثة ذو لحية كثيفة يحمل في يده كوب شاي فارغ قائلًا: ”حسن“... سوف آخذك للحمام كي تتوضأ وتصلّي ركعتين، وتقرأ ما تيسّر من قصار السُّور. بدأ ”حسن“ يرتجف وكأنّ الأرض تتزلزل من تحت قدميه. لقد كنت أسمع صوت أسنانه وهي تصطك مع بعضها البعض. حتى زوجته لم تستطع أن تُبقيَ رأسها في حضنه. ثم راح يتحدّث بلغة غير مفهومة، وما هي إلّا دقيقة حتى تسرّبت قطرات من داخل سرواله الأبيض لتترك بقعة صفراوية من تحته. ثم استجمعت قواي ورحت أقتبس من كلام الشيخ الذي التقى بـ ”حسن“ قبل ساعتين فقلت له: ”حسن“ عليك أن تغتسل، فعليك أن تصلّي، كي تقابل ربك مستغفرًا وتائبًا. انهض الآن.

نظر لي حسن نظرة قائلًا: أريد أن أرى ”زينب“. ووضع يده على رأس زوجته قائلًا: أخبريها بأنّي متّ مريضًا، لا تخبريها بأنّي أعدمت. وحين خرج متوجهًا نحو الحمام، وقال لي: أرجوك، لا تتركني.. رافقني. وأشرت له برأسي: بأنّي سوف أكون معك. دخل ”حسن“ الحمام وهناك تمنّيت أن ينزلق ويسقط على رأسه ويموت. وبينما كان يغتسل كنت أراقب زوجته التي كانت تظهر عليها ملامح الجمال. لقد نهضت وهربت بصمت عبر الممرّ الطويل. وما هي إلّا دقائق حتى جاء ”حسن“ برفقة اثنين من الحرّاس يأخذونه لغرفة صغيرة لا تتسع إلّا لثلاثة ليصلّي صلاته الأخيرة.

اختصاصي نفسي في مجمع إرادة للصحة النفسية بالدمام