مثقفون خارج القرية الكونية!
لم يكن تنبؤ الفيلسوف الكندي ”مارشال ماكلوهان“ قبل أربعة عقود من الزمن بتحول هذا العالم الشاسع أمام ثورة التكنولوجيا إلى ”قرية كونية“ مجرد تنبؤ تقني وفق رؤية تكنولوجية فقط؛ فهذا المصطلح عندما نقرأه برؤية ماكلوهان وهو أحد أهم أصحاب نظريات الإعلام والاتصال سنجده أبعد ما يكون عن إقحامه الحاصل حاليًا في كل ما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي على جميع الأصعدة الثقافية، والسياسية، والاجتماعية.
كان القصد من مفهوم القرية في نظرية ماكلوهان هو البعد الإنساني في التقارب الوجودي بين البشر فما يحدث في بلد خارج الحدود الجغرافية والثقافية لبلدي يمكنني أن أشاهده في لحظة وقوعه، وأشعر به كما لو أنني كنت موجودة في ذلك البلد وفي موقع الحدث.
أما ما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم فهو من وجهة نظري مجرد تقارب تكنولوجي في حدود الصورة الجامدة البعيدة كليًّا عن روح القرية التي أشار إليها ماكلوهان، وقد تكون الأحداث المتسارعة والمتشابهة في أكثر من إقليم جغرافي أحد أهم أسباب هذا الجمود في تعاطي المتلقي مع هذا الحدث أو ذاك.
وبتسليط الضوء على الواقع الثقافي فبطبيعة الحال لا بد أن يجرفه التيار التكنولوجي في سرعته بما يحمله في طياته من جوانب سلبية وإيجابية؛ إن وسائل التواصل الاجتماعي وللأسف الشديد خلقت لنا واقعًا لا يحترم الثقافة؛ فنحن نطلق الألقاب ونمنح أوسمة الشرف لكتّاب لا علاقة لهم بالفكر ولا بالقلم؛ إنهم مجرد شخصيات تمكنت بأسلوبها القريب من فئة عمرية وفكرية محددة من الحصول على عدد كبير من المتابعين في وسائل التواصل الاجتماعي ليصبح هذا العدد وفق المعايير المغلوطة الحديثة مقياسًا للمستوى الثقافي والأدبي لهذا الكاتب أو ذاك، أصبح ”الكتاب الأعلى مبيعًا“ إما قصة مكررة مكتوبة بأسلوب لغوي ركيك أو قصائد أضاعت طريقها في الوصول إلى تركيبة الشعر الحر لتستبدله بعبارات وحوارات باللهجة المحلية الدارجة.
ماذا تضيف مثل هذه الكتب إلى الفكر البشري؟ لا شيء سوى المزيد من مشاهير الصدفة الذين أنجبتهم وسائل التواصل الاجتماعي في جانبها السلبي، الجانب الذي تبدأ فيه قصة نجاحك انطلاقًا من شهرتك وليس العكس!
إذن مصطلح ”القرية الكونية“ ليس مصطلحًا عشوائيا والتقارب المقصود وفق هذه النظرية ليس كمًّا بعيدًا عن الكيف. معاييرنا في انتقاء ما نقرأ أو نشاهد يعكس صورة الإنسان في داخلنا، وفي أرقى مساحاته الفكرية والثقافية.