آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

الفرص القاتلة - 2

الدكتور محمد المسعود

التماع الذهب يجعل الحكيم سفيها، والشيخ الوقور صبيا ”حكمة إفريقية“. وأنا أنظر في حكمة الضحايا، ورجاحة عقولهم، ونصيبهم من العلم، وحظهم الوفير من التعليم، أجد في نفسي ميلا للتصديق بأن الطمع واستبداده في النفس يجعلها تصاب بعمى حقيقي يحول بينها وبين رؤية ما حولها، كما يحول وظيفة العقل للقيام بمهام التبرير لما يسوقه الطمع إليه بوصفه فرصة نادرة لغنى مستعجل، ومنفلت من أسبابه المعقولة، وعلله المنطقية.

فهذا ستيني أدرج الملايين في أرصدته، فارس من فرسان العقار، ورجل من صناع مخططاته، وصناع أرباحه الدسمة، أصيب بالعمى، وتعطل عقله تماما بعد أن تم إرسال مقطع لثلث طن من الذهب! تنتظر الشحن إلى من يملك القدرة على استقبالها!!. واستلم أول خطاب رسمي يشعره بموافقة الدولة على التصدير، ولكن يتعين عليه الدفع لضريبة التصدير والتسجيل باسمه!. وبعد شهر وصله خطاب يلزمه بدفع تكلفة الشحن إليه! وفاتورة فحص المعادن!!. وهكذا بدأ الثلث طن يطير من دولة إلى أخرى، ومن مطار إلى آخر! وتتوالى عليه صوره وهو يقترب من سماء بلده، متخيلا نقله إلى البنك المركزي السعودي، ولكنه قبل أن يتحقق هذا الحلم، إنساب من أرصدته، ثمانية عشر مليون ريال!! عبرت متجزئة ومقطعة قطعاً صغيرة، في كل مرة كان يفترض أنها الخطوة الأخيرة، يأتي بعدها اتصالات من سفراء أفارقة، ومدراء بنوك! ومسؤولون في مطارات دولية، ورسائل لا تتوقف يحثه الجميع فيها على ضرورة تأمين سرعة استلامها وأن يكون سخيا في إجراءات وصولها إليه!!.

لم يتوقف مع إلحاح الطمع وسلبه لعقله عن تحويل الأموال، إلا بعد إيداعه السجن، لتراكم الديون!. ومحاصرة الدائنين لقصره الصغير!. لقد أثبتت وزارة الخارجية أن كافة الرسائل والأختام كانت مزورة! وأن الشخصيات التي قابلها، أو تلك التي كانت تتواصل معه كانت فريقاً من اللصوص المحترفين، وإن الحوالات كانت إلى فقراء يتم إغلاق الحساب بعد التحويل إليهم مباشرة.!

وأن الثلث طن من الذهب كان تصويرا له من بيت أحد كبار تجار المخدرات في المكسيك!!. وبات من المتيقن به الآن أن فارس العقار السابق يتعين عليه أن يطوي ما بقي من عمره يقتات على نفقة أولاده، وعطايا إخوانه!.

القصة الثانية لرئيس الصيادلة، دكتور في الكمياء من أعرق الجامعات البريطانية!! فتاة إفريقية جميلة حولت له العشرة آلاف دولار إلى عشرين ألفا خلال 45 يوما!!. ثم الخمسين ألفا إلى مئة ألف دولار خلال 45 يوما!!. تقول أنها تعمل في البورصة العالمية.!!. وبعدها أخبرته أن الشركة تتعامل مع فئة واحدة فقط خمسمائة ألف دولار فأكثر ”مليون وثمان مائة ألف ريال“. أسرع الدكتور إلى اقترضها من أحد المرابين لمدة ثلاثة أشهر، باع بيته المرابي ليسترد القرض والربا بعد ستة أشهر. وتحولت الفتاة الجميلة التي تتقن مضاعفة المال، إلى غيمة لا يعرف من أين جاءت وإلى أين ذهبت!.

في مصر خسر عشرات الآلاف من الفلاحين مدخراتهم وأبقارهم وأراضيهم وذهب نساءهم مع تاجر أبقار يضاعف المال في أيام قليلة، واختفى ومعه مليارات، ثم سلم نفسه بعد أن أحكم إخفاءها.

يتساوى الجميع أمام الطمع الذي يصادر العقول!!. إذا كان الثلث طن ذهب حقيقية لماذا يترك الأفارقة أرباحه الهائلة لك!؟؟ ثم كيف يستبدله من يملكه بما هو دونه أو أقل منه!؟ وإن غاية كل تجارة الوصول إليه!!.

وإذا كانت الفتاة تنتج الربح بهذه المهارة فلماذا لا تنتجه لنفسها!! وكذلك تاجر الأبقار، الربح لا يقبل الشراكة!! ولكننا تتعطل عقولنا بمقدار حضور الطمع في قلوبنا، ونبتلى بعمى حقيقي مؤقت، يرتفع بعد أن نتحول إلى ضحاياه.

الطمع كالأفعى. ترقص.. وتحرك ذيلها بصوت يغري ضحيتها.. وتمنعه من الهرب.. وحين تنفث عليه سمها يصاب بالعمى.. ثم تلتف حوله يشعر بنعومة الحرير، وخدر لطفه على جسمه.. وحين يكتمل لفها عليه مخمورا بنعومة الآمال والأحلام. فقد بات أعمى لا يبصر ما يحيط به، وفي جزء من الثانية ترتفع روحه مع صوت تكسر عظامه.

قبل أن تبتلعه. بتمامه، ودون أن تستبقي منه شيئا.

وفي كل يوم تصطاد الأفاعي ضحاياها.

وفي كل يوم يصطاد الطمع ضحاياه.

حتى قيام الساعة...