آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

وداعا يا أمين تاروت

عبد العظيم شلي

بالأمس أعلن خبر وفاة الزميل والأخ محمد حبيب أمين إلى رحمة الله تعالى ورضوانه. ارتحل عن أسرته وأهله وصحبه وناسه، مخلفا لهم الحسرات والألم، تاركا لهم ستة عقود ونيف من الذكريات العطرة، ارتحل الأنيس الذي لا تمل من الجلسة والحوار معه، وحتى لو لم يتكلم، تعبيرات وجه تنطق بالمحبة، فهو شخص يحمل الطيبة في قلبه المنعكسة في كل ملامح وجه.

نبرة صوته مميزة، ترن في مسامع كل من يألفه ومن يصحبه فهو لطيف المعشر محبب للرفقة. يا بن امين شيعناك بالأمس عند حلول الظلام وصلينا عليك قبل صلاة المغرب بدقائق معدودات. أصحاب وأقارب، وأنساب يعزون بعضهم، وسط التهليل والترحم، ونحيب النسوة عند سكون الليل يزداد منظر المقبرة رهبة على رهبة.

هكذا انتهت شمس أيامك يا بن أمين، وفقدنا نور وجهك الوضاء بحب البلد والناس. وبينما الجنازة تتناقلها أيدي الأحبة، رأيت الأخ مسلم العقيلي خال أبناء الراحل جالسا على الكرسي متعبا حزينا مع أخيه عبد الجليل الذي تحامل على نفسه مشيا. واسيتهما بكلمات التسليم بقضاء الله وقدره، فأشار مسلم بيده على صمت القبور قائلا: «عندك عبرة»! نعم أين وأين الأهل والأحبة والخلان، الكل راحل اليوم أم غدا.

وعند لحظات الدفن وقف معي زميل المدرسة طاهر الأمين، وبين سرد الذكريات وتقليب المواقف عن حياة الراحل كرر جملة يعنيها حقا، ”والله أبو امين يحبك واجد“ رددت عليه: ”أدرك ذلك، يا طاهر واعرف نفسية ابن عمك حق المعرفة، محبته وزعها على الجميع“.

محمد حبيب أمين بكلمة شعبية ”شخص اريحي“ ترتاح له النفس من دون مقدمات، ولا حواجز، ولا كلفة في الحديث، أنيس بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والبساطة عنوانه في كل شيء، وأيضا يملك ذوقا في الكلام والهندام أنيق المنظر، إذا جالسته، وسره الحديث يخرج مسبحته، ويداعب بها أنامله، ويطرق بالسبحة على راحة كفه توكيدا لرأيه أو تثمينا لوجة نظر الحاضرين.

من أشد المتيمين بأندية تاروت القديمة، إذا تحاورت معه تلفونيا أو وجها لوجه، يمر الوقت بسرعة، ساعة ساعتين وأكثر، لا يمل الغوص في الأزمنة الرياضية التي خلت، عنده قابلية عالية في الحوار ولذة في السماع، ومن الصعب أن يغلق السماعة ويستأذنك، وإذا طاب له المقام والابتسامة تزين وجهه تجده يقول: ”استريح بعدنا ما قلنا شيء، بعدنا ماحمينا الطيران“!

العجيب في هذا الإنسان حتى لو تعيد عليه أحاديث الأندية القديمة عشرات المرات يقول لك هل من مزيد، موغل في الذهاب إلى الماضي بكل تفصيلاته وجزئياته، ويريد أن يحيه بشتى السبل بل يريد أن يستحضره حيا في النفوس!

لديه ذخيرة عن صور الرياضة قديما على نحو طاغ، لدرجة أستعين به شخصيا في بعض المرات، فيوضح لي أمورا غائبة عن بالي وينقذني إذا استشكل على ذاكرتي شيء ما.

حين يقابلني قبل التحية والسلام يمازحني استقبالا، ويقول: ”حبيبي يا عضو الوحدة كل قلوبنا متحدة، أنت الأمل والأماني بيك تاروت تفخر“ - مجموعة أهازيج لمحمد على الحجاج أحد الوجوه الرياضية في تاروت زمن الستينات -. بدوري لم أناديه يوما لا باسمه ولا باسم ابنه، وإنما أحييه دائما بعبارة ”أهلا ابن أمين“.

نعرف مدى تفانيك يا بن أمين وإخلاصك للبلد، فذاكرة من كان بالقرب منه يدرك بأنك عاشق لنادي الهدى، خدمته ليس لا عبا إنما ادارايا، دخلت مجلس الإدارة لدورتين مختلفتين، الإدارة الأولى من 1403 إلى 1407 التي عرفت بإدارة أستاذ عبدالله حسن منصور وجاسم الصايغ، وعاودت الكرة معهما ثانية من 1415 إلى 1419 وفي كلا المجلسين كنت أمينا للصندوق، ولاحظ عليك المقربون حينما خسرت الترشح في بعض المجالس التي تقدمت لها ينتابك امتعاض وحسرة، لأن ضميرك حي، فكيف تبتعد عن مكان تهواه منذ نعومة أظفارك، تريد أن تكون ليس عضوا عاديا بل فاعلا مؤثرا في مسيرة النادي.

لا بأس عليك يا بن أمين ثماني سنوات خدمت النادي ما استطعت سبيلا. خدمت الشباب تطوعا وعرفانا لحب البلد.

رحلت عنا يا بن أمين والأماني معلقة بحوارات مع شخصيات رياضية مؤجلة.

كنت تقول لي مرات ومرات ”خلينا نروح إلى أبو حسن الحاج عبد النبي الطويل حارس الوحدة سابقا نجلس وياه وننخل ذاكرته“ وكم ترجيتني، مرات ومرات بأن نزور الحاج عبد الرسول الصايغ، الحافظ لكل الأهازيج الرياضية التي ألفها، المرحوم محمد على الحجاج.

وفي كل مرة تقول: لي: ”خلينا نروح ليهم قبل لا يروحوا عنا من هالدنيا، كل ساعة وجاك خبر افلان انتقل إلى رحمة الله“! اثاري الأيام هي من تنكبنا ونخسرك فجأة.

كم واعدتك ولم أفي بالوعد إلا مرة واحدة في بيت ابن عمك اللاعب الموهوب الأستاذ جعفر امين في مجلسه، برفقة أبناء الصغير مهدي ومحمد، اللذان جهزا الكاميرات للتصوير، وكان القصد اصطياد لاعب النجم الحاج أبو زكي شاه، لكن بعد أن فرغ الخطيب خرج الرجل مستأذنا بالذهاب للنوم فظللنا نتحاور ونتجاذب أطراف الحديث لساعات عن الأمجاد الكروية لكل أندية تاروت القديمة.

لم تكن علاقة ابن أمين بالناس علاقة كروية بل اجتماعية ودينية ، تمثلت في دخوله مجلس إداراة جمعية تاروت الخيرية 1409، وما أروعها من خدمة مجتمعية، كما تقلّد منصب أمين صندوق ، لأنه قدير في الحسابات المالية ، وأكبر تجارة ربحها ملازمته للمجالس الحسيني . وحسبما وصلني من أصحابه وأهله في أثناء انتظارنا أن يوارى الثرى: ”أبو أمين يواصل الأهل زي أمه، وما يخلي العوايد ويحضر العشرة الثانية والثالثة مع ابن خالته علي مقرن، ويوجب الأعراس وكل المناسبات“. أما طاهر الأمين المتأثر على رحيله، ويشعر بغصة على فقده يقول: ”أجمع الكل على محبته من داخل العيلة ومن بره العيلة، إنسان متواضع لأبعد حد، خسرنا الأناقة والرشاقة ولزيارات، وأكبر خسارة خسرنا قلب حنون اعجز عن طيبته الصافية النقية“.

كم تألمت كثيرا اثناء لحظات الدفن بأن الحاضرين باتوا قليلون، بقي فقط الخلص وأقرب المقربين! خرجت من المقبرة أريد أن أبكي على إنسان يكن لي محبة اخوية بالغة، ليس لي بل لعموم أبناء البلد بكل رموزها الرياضية والثقافية والاجتماعية، جلست في سيارتي متنهدا، واغرورقت عيني بالدمع، وقلت سلاما على روحك يا بن امين، كنت أمينا للصحبة الجميلة وأمينا منذ عرفتك بحبك الطاغي لتاروت بشرا وأرضا، تستحضر دائما في كل أحاديثك عن الراحلين الذين تركوا بصمات على جبين الزمن، تريد أن تحيبهم برحابة صدر فاخرة وتضعهم في وجدان المجتمع، فهل سيذكرك الناس بعد رحيلك؟، عصرة قلب ونبضة حسرة، ولوعة غياب أبدي، رحلت يا بن أمين وانتهت كل المواعيد!