وليمة الدموع.. أفكار حول طقوس عاشوراء
يخبرنا هيرودوت اليوناني المعروف بأبي التاريخ وأول إثنوغرافي كيف كانت تجري طقوس الموت لأزوريس في الممارسات الدينية الشعبية في مصر القرن الخامس قبل الميلاد. فهذا المؤرخ والذي كان يتوخى الأمانة العلمية في تدوين تاريخه - رغم ما يشوب نصوصه من مركزية إثنية - قد جال في عالم البحر المتوسط وزار مصر التي كانت خاضعة للإحتلال الفارسي الإخميني آنذاك، ودوّن مشاهداته في تاريخه.. الطقوس التي كان يصفها تشبه طقوس عاشوراء في عصرنا الراهن، مصرع الشهيد أوزيريس يثير البكاء ولطم الصدور، فحزنا على الشهيد الذي قتله الشرير شيت وناحت عليه شقيقته إيزيس واحتضنت أشلاءه، يقدم المصريون كل عام القرابين بعد صيامهم وضرب صدورهم بالقبضات ثم يعمدون إلى تناولها في احتفال جنائزي حزين وصاخب.
يؤكد هيرودوت أن تلك التقاليد كانت متفشية في الأوساط الشعبية، حتى قال أن المصريين لا يجتمعون إلا على عبادة إيزيس وأوزيريس، لكن طقوس الحزن لا تقتصر على مصرع أوزيريس، إذ يصف هيردوت نفسه طقوس كبش آمون رئيس المجمع المقدس المصري، ففي نهاية الطقس ”يأخذون في ضرب صدورهم أسى وحدادا على الكبش“.
نعرف أن التاريخ حركة، لكن المشاهد التي يصفها لنا هيرودوت تشعرنا بأنّ التاريخ سكون، وأنّ هنالك من بين كل الأزمنة زمن لا يتحرك، زمن ثابت، زمن هو الأبدية، زمن ثقافي عميق يخترق كل الأزمنة من أزوريس مرورا بالشهيد تموز وحتى طقوس الحزن على فاجعة كربلاء. إنّ وصف هيرودوت جدير بأن يشكل بداية للتحليلات الأنثربولوجية والميثولوجية التي قدمها الباحث العراقي فاضل الربيعي تحت عنوان محتقن بالدلالة: ”المناحة العظيمة“، فسعيا لاكتشاف سمات هذا الزمن العميق، زمن الراسب الثقافي ولتقديم رؤية لفهم طقوس الحزن الشيعية المتواصلة عاما بعد عام، يحفر الربيعي متوسلا بأدوات المناهج الحديثة كالأركيولوجيا والتاريخ والمنهج الصوتي اللساني، في اللغة والتاريخ، ليجد أنّ من الضروري عدم الاكتفاء بتفسيرات سياسية كالتأثير الفارسي في العصر البويهي في القرن العاشر الميلادي حيث من الشائع كما تقول المدونة التاريخية العربية تكريس السلطة البويهية في القرن العاشر الميلادي لطقوس عاشوراء، أو الذي بدأ مع صعود الصفويين إلى السلطة في القرن السادس عشر ونشرهم للمذهب الشيعي في فارس وتوسعهم في غرب أسيا، حيث نلاحظ ما يمكن تسميته بالتأسيس السياسي الأكثر أهمية في التاريخ الشيعي. وهو الرأي الذي يميل إليه المفكر العراقي علي الوردي في كتابه ”لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث“.
لا يحتل العامل السياسي أهمية بقدر العامل الثقافي. لفهم الظاهرة يلزمنا الإنتقال إلى مستوى تحليلي آخر. مستوى أكثر عمقا. ذلك أنّ ما يهم الربيعي هو العمق التاريخي والأنثربولوجي للظاهرة، فالمسألة ”لا تتعلق بتأثير هذا البلد على ذاك، بل بوجود ثقافة دينية قديمة ومشتركة لها جذور عميقة في التاريخ.. تبلورت مرة في صورة نواح على الإله تموز قبل ما يزيد على ثلاثة آلاف عام ثم عادت وتلبورت من جديد في صورة نواح على الحسين“ حيث كانت بيوت الحزن وطقوس النواح الجماعي منتشرة في جميع أرجاء الإمبراطورية البابلية في غرب آسيا. فبينما تميل بعض الدراسات إلى ترجيح العوامل السيسيولوحية والتاريخية كابراهيم الحيدري في دراسته المفصّلة ”تراجيديا كربلاء، سيسيولوجيا الخطاب الشيعي“ إذ يفسر الظاهرة ورسوخها بالهجرات المتنامية من الريف إلى المدينة إضافة إلى تحضّر القبائل - كلما تفاقمت المشكلات الاجتماعية تزايدت حمى الطقوس - فإن فاضل الربيعي يلح على الراسب الثقافي بصفته قاعدة تفسيرية تساعدنا على فهم الظاهرة ودلالاتها والممانعة الشديدة ازاء كل محاولة نقدية ضدها.
نلاحظ مع الربيعي تماهيات عديدة في طقوس الحزن. فرغم كل التحولات السياسية والدينية والحضارية يظل المحتوى الثقافي ثابتا. الصورة ثابتة والإطار يتحول. تلك استراتيجية ثقافية معروفة يذوب في داخلها الزمن والتاريخ. وهو أمر معروف في الدراسات السيسيولوجية والثقافية خاصة في المجتمعات التقليدية الزراعية حيث تتسم الثقافة والهوية بهيمنة مؤثرة تضعها في مقابل المجتمعات المدنية الحديثة التي تتسم بصلات اجتماعية غير عضوية وحديثة. من هنا أمكن معاينة الطابع البطيء للسيرورة الثقافية في المجتمعات الزراعية ”التقليدية“ قياسا بالبنى الإجتماعية الأخرى كالاقتصاد والسياسة، فقوة وزخم الراسب الثقافي الذي يتخذ شكل فلكلور وعادات شعبية ”أنتزع منها الطابع الديني المقدس“ وأعياد واحتفالات وفنون أدائية ولكن أيضا طقوس دينية، كل ذلك يجعل من المتاح إقامة ”علاقة عضوية“ بين المناحة على تموز والمناحة على حادثة كربلاء.
فبيوت الحزن والمناحة كانت منتشرة في التاريخ والجغرافيا. التماهيات لا تخطئ، بين تموز والعباس نجد مثلا: الكف والعطش والنهر والرثاء الأنثوي، الخ.. عناصر القصة تتكرر والأسلوب الطقسي هو ذاته.. كما نجد كرنفالات التعنيف الذاتي كضرب الأكتاف بالسلاسل في أسبوع الآلام ”صلب المسيح وقيامته“ في الطقس المسيحي، تتكرر في مواكب التطبير عند أتباع المذهب الشيعي الجعفري، التي يقول علي الوردي أنها عادة وافدة من المسيحية الشرقية الأرثوذكسية، أما التلاوة الطقسية لمصرع الشهيد تموز في ”بيوت الحزن/ بيوت عشتار“ فيتردد صداها في العشرة الأوائل من شهر محرم من كل عام في شكل واطار آخر حيث تجري التلاوة الشجية للحادثة.
يبدأ الطقس الشيعي في بداية كل عام، في العشرة الأوائل من شهر محرم، أول شهور التقويم القمري، ويتوزع بين اعادة سرد الفاجعة بنبرة حزينة تتخلها في التقاليد الطقسية الحديثة خطب لها طابع وعظي وتبث فيها تعاليم المذهب ومعالمه العقائدية، وفنون تعبيرية متنوعة تتوسل بإيقاعات الجسد في مواكب تجوب الشوارع محاطة بأعلام سوداء ولافتات تدون فيها شذرات دينية شعائرية مع لوحات فنية لوجوه شخصية متخيلة للأئمة الشهداء، ويترافق مع كل ذلك بكاء ونحيب وتفجع يشارك فيه النساء والرجال. والهيكل السردي المعتمد في كل تلك التركبية الطقسية المتنوعة مستمد من رواية ”لوط بن يحيى الأزدي“ ت 157 للهجرة ”“ المعروف في الأدبيات الشيعية بأبي مخنف، وهو الراوية القاص الذي اعتمده المؤرخ الطبري في سرد حادثة كربلاء. وابن مخنف هذا من الرواة الأوائل المؤسسين للسرديات التاريخية كما يقول الدكتور عبد العزيز الدوري في كتابه ”نشأة علم التاريخ عند العرب“، وهو أحد مصادر الطبري ”ت 310 ه“. غير أنّ حديثه حديث السمر، وقد استعمل ”الإسناد بشيء من التسامح“، ضعيف الإسناد عند المحدثين، به شيء من الإنحياز لرواية العراقيين كما يقول عبد العزيز الدوري، وكان ”يعتمد بكثرة على روايات قبيلته الأزد“ ويعتمد أسلوبا سرديا أقرب للمرويات الشفاهية منها إلى الرواية المدونة، حيث تظهر في السرد الشفهي كل العناصر الإيقاعية كالشعر المنظوم والنثر المسجوع بهدف تأمين وظيفة الحفظ المعتمدة على الذاكرة في غياب المدونة الكتابية، لذا نراه يقدم أحيانا ”صورة أخاذة حية للحوادث مع كثير من الخطب والمحاورات والشعر“. وهي الصورة عينها التي نجدها متفشية في الممارسات الشعبية لطقوس عاشوراء.
تعود الإشكالية إلى بداياتها: هل ثمة إمكانية للعثور على الحدث الخام في خضم التداخل البدائي بين الأدب والتاريخ؟ أين يبدأ التاريخ وأين تبدأ الحكاية المتسمة بكل المؤثرات البلاغية والمبالغات الشعرية؟ كيف نميز النواة الواقعية للحادثة التاريخية التي جرى شحنها بتخمة تراجيدية يمتزج فيها المتخيل مع الواقعي؟ سؤال ملح، فنحن هنا بإزاء قراءة تستند للثقافة الشعبية أو لنقل التشيع الشعبي في مقابل التشيع ”المعياري“ المكرس بالسلطة الشرعية للمؤسسة الدينية. ومن دون هذا التمييز لا نستطيع فهم ما يجري من ممارسات دورية للتشيع الشعبي المنقح بكل أشكال المزايدات الموجهة للعاطفة والانفعال، وهي مزايدات تكشف عن نفسها بوضوح: الحادثة وقعت في يوم واحد والطقس الشعبي يوزعها في عشرة أيام/ الرسم الأسطوري لشخصيات المأساة حيث تجري أسطرة ما هو تاريخي في كل ثقافة شعبية، فيبدو العباس مثل هرقل الإغريقي ليس بطلا وحسب، بل إنسانا متفوقا، نصف أسطوري، ميتا بشري بوسعه قطع أعناق مئة مقاتل في ضربة واحدة.. لكن المخيال الشعبي لا يكتف بذلك بل يحيل يوم الحادثة إلى يوم فريد واستثنائي، يرفع الزمن اليومي بفعل الفاجعة المؤلمة إلى زمن أسطوري حيث يبدأ الشفق بالاحمرار في صورة شعرية رائعة: ”إن يوم مقتل الحسين قطرت السماء دما، وأنّ الحمرة التي ترى في السماء ظهرت يوم قتله“.. وهو شهيد الأيام الذي ”ما رفع فيه حجر إلا وجد دم“، وعليه فلابد من استبدال الحداد المعياري الوارد في مدونة الفقهاء والخاص بظهيرة يوم عاشوراء فقط بالحداد الشعبي ليجري تمديده إلى عشرة أيام أو في حالات معينة إلى شهرين ”محرم وصفر“.
إن حادثة كربلاء قصة تراجيدية تحمل كل سمات البطولة المتخيلة، فالذاكرة الشعبية تمنح البطل التاريخي سمات أسطورية بحيث تنشأ البطولة من رحم المبالغات الميثولوجية وتصير ”الأسطورة هي المرحلة الأخيرة لا الأولى من صنع البطل“، يتعين تمييز الغلاف الأسطوري عن النواة الواقعية، ذلك أن سؤال التاريخ في كل ذاكرة ثقافية هو دائما وأبدا سؤال إشكالي، تزيحه كل ثقافة محتقنة بخيبات التاريخ نحو حيز اللامفكر فيه، من هنا السمة التي لاحظها المفكر الميثولوجي ”مرسيا إلياد“ في كل بناء ميثولوجي: إن الإنسان التقليدي، إنسان ما قبل الحداثة يخشى التاريخ والزمن الفيزيائي، فالطبيعة الإنسانية المنغمسة في الطقس تتسم بما أسماه مرسيا إلياد بالعود الأبدي. تقوم هنا أنطولوجيا مكتملة، حكمة كونية خاصة، يمثل التكرار أساسها العميق. التكرار خاصية الطقس، مما يعني أنه استعادة للحظة ماضية، أي أنه تحيين لحدث حقيقي أو متخيل جرى في التاريخ، الأشياء لا تنفك تكرر ذاتها فتكتسب القيمة، والعالم ما هو إلا حدث واستعادات لا نهائية لهذا الحدث ذاته، الحدث الأصلي والمتعالي والمشحون بأبهة القداسة والسمو والتجاوز الروحي. هكذا يبدو الزمن دوريا ضمن تاريخ النجاة المدشن بالفاجعة والمتوج بالخلاص المنتظر، واللغة غنائية ملحمية، والتفكير رغائبي يهمل الحاضر وتحدياته ويعلق الزمن التاريخي وتحولاته، ذلك لأن الغناء - كما يقال - لغة الموجوع والرقص تعبيره الحركي وصرخة الانفعال خطابه الصريح.
لكن اجترار الماضي يعني أزمة في العيش، أزمة وجودية. العيش في الماضي يعني انعدام الحاضر، والحاضر يعني الوجود وانعدامه يعني الموت، من هنا أمكن القول أن الثقافة الطقسية تحمل سمات غياب الوعي والإنتباه، فالكائن هنا محشور بين الأمل والذاكرة، والثقافة المأزومة بوعي الخسارات تترنح دائما بين الماضي والمستقبل.. يتضمن كل طقس بصفته تحيينا لحدث بدئي عودة للخلف، نظرة إلى الوراء، ففي القلب من كل طقس نزعة ماضوية تعمل بشكل دوري على تعزيز وتضخيم كل مشاعر الحنين، ذلك لأن إنسان الثقافات التقليدية يرهب التاريخ وحركة التاريخ فيضطر إلى شطبه على نحو رمزي بصورة دورية. التاريخ سردية هزائم وخسارات والطقس محو لهذا التاريخ وتشييد رمزي لتاريخ آخر.
ثمة هنا مفارقة ينطوي عليها كل طقس جنائزي، فالحداد الأبدي يحيل الذات في الآن نفسه إلى معاصرة وغير معاصرة لحاضرها، والبكاء الدوري يشحن الذات بانفعالات الأسف وتوبيخ الذات والتوق إلى وهج البدايات أو القفز إلى نهاية سارّة. ”يا حسين“ هو النداء الذي يتكرر كثيرا، والنداء هنا دعاء طقسي، يتم من خلاله الاستحضار المتخيل للحادثة، عبر استعادتها الدائمة، إن النداء هنا والذي يتسم بمحمول نيستولوجي متأجج يمنح الماضي المتخيل أو الحقيقي سمات الحاصر، تشع اللحظة الماضية وتكبر فتبتلع كل الأزمنة، يموت الزمن ويلغى ويصير الماضي بفعل النداء الصاخب هذا حاضر أبدي، لكنه في الوقت ذاته ليس حاضرا، بما أنّ النداء هنا رجاء فهو يتضمن المفارقة ذاتها بصفته إقرار ضمني بأن ذلك الحاضر المشيد على نحو طقسي إنما هو حاضر متخيل، موضوع رغبة وبؤرة تمنيات، من هنا النغمة الحزينة المرافقة للشعار القطسي.. تفهم الدموع المتدفقة على هذا النحو، والأمر يعود جوهريا إلى وعي شقي، وعي حزين، وعي بخسارة ما، بهزيمة أو موت، فهذا النداء المستعاد دوما تعبير عن ذات منتحبة لا تملك إلا دموعها، تقف بإزاء المبكى الكوني راجية الإمساك بلحظة نائية في ماض سحيق.. يعبر فوكو في محاضراته ”حكم الذات وحكم الآخرين“ عن هذا الصوت المحتنق بالدموع بصفته خطابا تراجيديا للضعيف، الصراحة التي يحللها فوكو تفترض سياقا صراعيا تمثل فيه تراجيديا الدموع الطرف الخاسر في معادلة التاريخ والثقافة.
يسعى فوكو إلى تحليل الخطاب السياسي وتحولاته فيما أسماه بالتاريخ النقدي للفكر ”والسياق التاريخي أوروبا الغربية“، والخطاب يتجلى في النص المكتوب كما في تعبيرات الجسد، يتحول الخطاب من اللغة إلى الجسد، والهدف الكشف عن تجليات القول وآلياته في سياق سياسي، ويتحدد نوع الخطاب بوضعية الذات وموقعها في تراتبية العلاقة الاجتماعية، ينجم عن الضعف خطاب الدموع، البكاء وسيلة تواصل تماما كاللغة، بهذا المعنى تبدو طقوس البكاء خطاب تواصل يجعل مما هو غير سياسي ”الطقوس الدينية“ وسيلة سياسية، أو يزج بغير السياسي في السياسة/ يمزج المتعالي المقدس بالدنيوي/ يتم تعويض الضعف السيسيولوجي والتاريخي بقوة ماورائية، هكذا يتشوه السياسي والديني معا، تصير السياسة دينا، والخطاب السياسي ترتيلة أو طقسا أو مسيرة عزائية، والخصم ليس معارضا سياسيا وإنما شيطان، يحدث هنا انتهاك شرس للمفاهيم وقواعد اللعبة السياسية اليومية والمتبدلة والمتحولة بالاستناد إلى الثابت المدعم بالطقوس. التمايز البنيوي الذي أشار إليه ”ماكس فيبر“ بصفته خاصية الأزمنة الحديثة يبطل هنا، ففي الأزمنة الحديثة ذاتها تنامت ظاهرة تسييس الطقوس ضمن ظاهر أعم هي أسلمة السياسة، معروف أنّ السياسة فضاء النسبي والمصالح والمتغيرات وكل ما له صلة بالدين فضاء الثابت، وعليه سيكون تسييس الطقس ممارسة سياسية إحتيالية واستقواء غير مشروع وسيؤدي في مضاعفاته القصوى إلى أسطرة السياسة، خذ مثلا: المنقذ كبشارة في محافل الأمم المتحدة!.
على أن طقوس البكاء ليست فاعلية خطابية للضعف أو إفصاح أمين عنه أو ترجمة وفية له، وإنما هي في الآن نفسه شكل محايد، فلها قابلية التحوير والتوظيف والاستعمال لتبدو مثل قيمة استعمالية وتداولية، إن الطقس مشاع في سوق الاستثمار السياسي، هكذا يكشف التاريخ المعاصر هذه الظاهرة وهي تشتد وتتنامى من جميع التيارات والقوى السياسية. يورد المؤرخ الفلسطيني ”حنا بطابطو“ في تأريخه لنشأة وتطور التنظيمات السياسية الحديثة في العراق شواهد على استغلال الطقوس الشيعية والعاطفة الدينية في إطار الحرب الباردة، إذ كتب ”راي“ وهو مسؤول أمني بريطاني في رسالة مؤرخة في نيسان 1949م إلى مسؤول عراقي يحث فيها على اللجوء إلى الأساليب الناعمة لمواجهة القوى الهدامة التابعة للبلاشفة ضمن ”اجراءات تصحيحية“ تشمل ما أسماه ”المعالجة الدينية“، مما أثار جدلا في أوساط تلك القوى ذاتها، بين من كان يرفض الطقس والمشاركة فيه ومن كان يدعو بحماسة شديدة إلى تحويله إلى ”سلاح للحركة الثورية“ ضد خصوم الجماهير متذرعا باستغلالهم لتلك المسيرات.
أن يكون الطقس شكلا يعني أن يكون متجانسا مع الشيء ونقيضه، أن يعبأ بمضامين متناقضة، يتحول إلى وسيلة ثورية ملهمة أو آلية مضادة للتغيير تعزز النزعة المحاقظة واستمرارية الماضي، أو ينحل ليصير محص آلية تعويض سيكولوجي، وإذ ينشأ فضاء من سوء الفهم والتأويلات المتنافرة التي تفتح الباب أمام شتى التشويهات والمبالغات والمزايدات في المعنى والممارسة، تحلّ ضرورة التفكير النقدي، النقد المشروط بشجاعة التنوير والخروج من وضعية القصور. والنقد المرجو نقد خارجي علمي وموضوعي، ينظر إلى الظاهرة من خارجها، يعتبر النص منتجا بشريا ويعلق الحكم حول أسسه المتعالية واضعا إياها بين هلالين، متجاوزا كل ضروب الإصلاح التي يمكن اعتبارها نقدا داخليا ذلك الذي يقوم به في العادة رجال دين ومثقفون من داخل المؤسسة الدينية ”الحوزات“.
لقد جمع الدكتور ابراهيم الحيدري قائمة واسعة من رجال الدين المصلحين ممن تجاسر على نقد الظاهرة نازعا منها المشروعية الدينية، من محسن الأمين صاحب ”رسالة التنزيه“ في تنقية الشّعائر الحسينيّة إلى محمد حسين فضل الله مرورا بمرتضى المطهري صاحب ”الملحمة الحسينية“ الذي قال أن البطل قتل مرتين، بسيف قاتله وتشويهات وعاظ المنابر.. أسماء إصلاحية لامعة يعج بها تاريخ الإصلاح الديني، قدمت أسئلة عديدة ونشرت فتاوى، باستحياء حينا وجرأة حينا آخر، غير أنّ أحدا لم يتسائل عن معنى الطقس في ذاته/ كيف يمكن رسم حدوده وتمصلاته بين الدين والسياسة/ كيف تبدو طقوس البكاء في الأزمنة الحديثة.. وسؤال التاريخ؟ هذا السؤال الإشكالي الضخم، السؤال الغائب، فما أثر التاريخ وتحولاته في ممارسة الطقس وديمومته؟ ماذا يعني أن يكون الحدث إيجابيا، ما الذي يتركه ذلك في المعنى وصيرورة الحقيقة وتاريخيتها؟ ثم ماذا عن القطيعة المعرفية؟.. إنها أسئلة ملغمة، تتجاوز طاقة النقد الداخلي ”الإصلاح“.. وحده النقد الخارجي يمكنه طرح أسئلة من هذا النوع والدفع بها نحو تلمس إشكالات جديدة لتلافي فاجعة المعنى بعد فاجعة الحدث..