المفتاح الزائف
«المتنبي عنصري» هكذا قال لي الشاعر والباحث يحيى العبد اللطيف، قبل أن أملك مفتاح معرفته، وكان رد فعلي مزيجا من السرعة والسخرية، حين نفيت هذا الحكم عن المتنبي، دون أن أقدم دليلا على هذا النفي في حينه. إن من يقرأ «لا تشتري العبد إلا والعصا معه» يجد في يده مسوغا لاتهامه المتنبي بالعنصرية، وكنت أصفه ب «القومية» حين كتبت عنه منذ ستين عاما، ولا أزال. ومن يقرأ شعره، مرتبطا بظرفه الزمني الذي لم تكن العبودية فيه محل استنكار، وبتجربته الشخصية مع كافور، وهما من عناصر السياق، لا يستطيع اتهامه بالعنصرية. إن الصاحب بن عباد قد أساء عن عمد حاقد تفسير: «إذا كان بعض الناس سيفا لدولة / ففي الناس بوقات لها وطبول» فقد كان المتنبي يعني بالطبول الخلفاء العباسيين الذين عاصرهم، وهم كرة يلعب بها الأتراك.
أقصد من تعبير «المفتاح الزائف» ذلك الذي يسيطر على الفرد من الانطباع الأول. وهو، غالبا، ما بكون انطباعا سريعا زائفا. وهذا تهوّر فى الحكم، أنا أحد المصابين به. وهذا كان انطباعي عن الشاعر والباحث الدقيق يحيى العبداللطيف، قبل أن أقرأ نتاجه الشعري والبحثي، ولكن بعد أن قرأت ديوانه «العروج إلى الهامش» وكتابه الرصين «تداولية السخرية في المعرك الأدبية في مصر» أصبح عندي انطباع آخر.
الأفق النفسي للديوان نلمسه من الألم الناشئ من قراءة الواقع المعاش الذي فيه «الكل يهتف أن الله خوله / وصرت أصرخ: إن الله يختطف» واختطاف المقدس المطلق معناه اختطاف القيم، واستباحة الإنسان. والضياع فى وديان الضلال. وهذا الأفق النفسي ناتج من تأمل فى الواقع. إنه ألم ذهني جاء التعبير عنه عن قصد. بقي أن أشيد بكتابه «تداولية السخرية..» فهو يدل على باحث متتبع، واسع الاطلاع على موضوعه. لا أذكر من قال: الكتاب الذي لا يقرأ مرتين لا يستحق القراءة. وكتاب يحيى يستحق القراءة مرتين أو أكثر.
قبل فترة قصيرة زارني الشاعر المبدع حيدر العبد الله، ومعه ثلاثة من الأحساء، منهم شاعران لم أعرفهما سابقا، أحدهما يحيى العبد اللطيف. وهنا رحت ألوم نفسي على عدم تتبعي لحركة الشعر في الأحساء، فأنا لم أعرف منها إلا اللآلئ التي طفحت من القاع إلى سطح البحر. وهذا تقصير فادح ملام، في حق البحر، وحق نخيل الأحساء.