آخر تحديث: 27 / 11 / 2024م - 9:54 م

في القطيف... ”كل السمَك والمحموص“

عبد الواحد الأنصاري

كانت سيارة أبي هادي ”جعفر الشايب“ تلتف من حول الحواجز القريبة من مطار الملك فهد الدولي بالدمام وهو ينتظرني، في يوم صائف، رطوبته غير شديدة، وبعيدة كل البعد عن جفاف الطقس الذي خلّفته في الرياض آنفاً، مع أن نجم سهيل قد طلع، وآن للّيل أن يطيب كما يقال.

كنت منشغلاً في الطائرة بمراجعة المواضيع التي توقّعت أن تتضمنها مداخلات السائلين والمناقشين في الأمسية الثقافية التي تنتظرني بمنتدى الثلاثاء الثقافي، ولم أكن أتوقع بحال أن أبا هادي هو نفسه من سوف يستقبلني في هذه البقعة الغالية من الوطن العزيز.

الرجل الذي كنت أتصوّره في نهايات الأربعين، وكان يلحّ علي بشدة مستعجلاً تفاصيل الورقة التي تحمل عنوان ”مراجعات ثقافية مع جيل الألفية في السعودية“، هذا الرجل ذو ذكاء اجتماعيّ نافذ، استطاع أن يلم شمل المثقفين في العوامية والقطيف وتاروت وسيهات وما حولها، في جلسة ثقافية ”وطنية“، تحتشد بالفعاليات المتنوعة، وكأن الليلة الواحدة ينبغي لها أن تكون ثلاث ليال حتى تتسع للجدول الثقافي الذي يعده ”أبو هادي“ لها.

ذكاء القطيفيين حين يستقبلونك وأنت قادم من نجد أو من الحجاز أو من شمال المملكة أو جنوبها يتجسد في ألّا يصطنعوا شيئاً، أن يرحبوا بك بحفاوتهم الفطرية وهدوئهم المتأمل، وبتلك اللهجة التي تظن أنها عندما تندّ من أحدهم فكأنه يدرس الكلمة ويتفحصها بأناة قبل أن يلقي بها إلى سمعك.. كان عليّ أن أخفض سرعة الجُمل في لهجتي المركّبة من مفردات حجازية وأخرى نجدية، إضافة إلى مخارج حروف آتية من ذلك التنوّع الديمغرافي الذي تشكّلت منه لهجتي الخاصة جدّاً، تلك اللهجة التي لا يمكن لأحد أنى يستمع إليها صافية نقيّة تخرج من حبالي الصوتية إلا إذا هو ”تلصص“ على حوار يجمعني بابنتي سامية ”آخر العنقود“، وهي التي تقول: كلام المدرسة غير كلام البيت، تعني أن اللهجتين مختلفتان. وذلك ما كان بيني وبين الأستاذ جعفر، الذي بدا أنه يتغيا أن يسرع في الخطاب بعض الشيء، وكنت أنا أصارع لعلي أحقق بعضاً من الهوينى، ولعلنا نلتقي في المنتصف.

وقد التقينا فعلاً هناك، على مائدة ”محموص وسمك“ في مضافة تسمى ”تراث الأجداد“، وكان غذاء ثقافياً ”قياساً على عبارة: غداء عمل“.. وطوّف بي ”الشايب الشابّ“ في ذكريات سنوات ”العوّامية“ الماضية، والتحولات التطويرية والعمرانية والثقافية، وحدّثني عن ذلك الحسّ الوطني والشعور بالانتماء اللذين يعمران كل قلوب أهالي هذه المحافظات ويغمرانها تجاه وطنهم وقيادته الرشيدة.

وقف بي مؤسس المنتدى الثقافي في مواطن أثريّة لها ثقلها ورمزيتها في ذاكرة المنطقة الشرقية، وجال بي جولة واثقة هادئة، استطاع فيها أن يحقق معادلة رجل البلدة النبيل، الذي يجيد إخبارك بما يود قوله في اللحظات نفسها التي ينصت فيها إليك، وإني لأستشعر شيئاً من الحرَج وأنا أعترف في هذه الكلمات اليسيرة بأن ”الجولة“ كانت أغنى كثيراً من ”الأمسية الثقافية“. ذلك أني كنت أسمع في هذه الأخيرة صوتي المتهدج المضخَّم الذي تعمّد مهندس الصوت أو مكبراته أن يُجريا تحسيناً لتلك البحة المنغومة التي تبذل ما في وسعها لتصبح حديثاً فكرياً أخاطب به أبناء جيلي. ولا شك في أن المرء يشعر بنوع من الغرابة والانزعاج وشيء من الخوف حين يطرق أذنيه صوته كما هو، فكيف وهو مفخّم وكأنما هو يأتي إليه من كهف بحري!

طاف بي مضيفي بين النوارس البحرية وأنابيب ”التابلاين“ والمراكز الحضرية في الزور وغيرها، وحدّثني عن التحولات التي تتجه قدُماً إلى ما هو أحسن، وعبّر لي عن تفاؤل الأهالي وإيمانهم بالرؤية الملهمة ”رؤية 2030“، ثم تفرّع حديثنا واستطرد في نواح عدّة، وفي كل ذلك يتكشف لي شيئاً فشيئاً في الرجل ما تشتمل عليه شخصيته من تكوين ثقافي واطلاع واسع وتضلّع مقتدر من التاريخ والمعرفة، ولم نصل إلى النزُل المهيّأ لي إلا وقد عرفت مع مَن سأكون متحدثاً في هذه الليلة ”19 سبتمبر 23“، ولم أعد أشعر بالاحترام فحسب، بل بالاحترام والهيبة والتقدير.

أما الأمسية فقد كانت الواقع الشاهد على ثراء شخصية الأستاذ الشايب، وقدرته على لَأْمِ جميع المراحل العمرية والميول والذائقات تحت سقف واحد؛ فحضرها إعلاميون ومثقفون وفنانون، وأثلجَت صدري عروض اللوحات التشكيلية الوطنية، والحفاوة والتكريم الذي امتد أفقه ليشمل الناشئين وذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن والأكاديميين والرسامين.. وكان مما أسعدني أن التقيت نديمي القديم الأثير عبدالواحد اليحيائي ”أبا منصور“، صديقي اللدود في موقع ”جسد الثقافة“ و”جماعة السرد“ بالنادي الأدبي في الرياض.

أما المحاضرة والمداخلات فقد دارت على أحسن ما يرام، ولم تخل ملحوظات قيّمة وآراء مؤيدة أحياناً و”ناقضة“ أحياناً أخرى، وهل لي أن أتوقع أفضل من ذلك من هذا الحضور المتنوع، وأثارت إعجابي الألفة والتكافل وحسن الأدب والجوار الذي يجمع أهالي جزيرة تاروت وجيرانهم وأصدقاءهم ويظلهم بظلاله الوارفة في وسط هذه المنازل الوادعة والمشرعة الأبواب للقاصدين.