آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

إذا مات الضمير عشعش الغش والخداع

عباس سالم

في زمن الحداثة اليوم غاب الضمير عن منظومة القيم الأخلاقية بين الناس في الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية، وأصبحت قيم الغش والخداع والكذب والنفاق والرياء الاجتماعي قناعةً وسلوكاً يغطي على النزاهة والصدق، وصار التزمت والصعود على أكتاف الناس والتظاهر بصفات النخوة والأمانة متقبلاً ومرحبًا به بين بعض الناس.

الصراع الداخلي للإنسان بين النفس الأمارة بالسوء وبين الضمير صراع أزلي، فإذا مات الضمير مالت النفس إلى التجاوزات والانحرافات التي ربما تكون مخالفة للدين وللقانون والنظام، وإن القانون والنظام عنصران مهمان لتنظيم حياة البشر، فعلاقة الحياة بهما علاقة راسخة وكلاهما مكمل للآخر، والحياة بلا نظام ولا قانون حتماً ستكون حياة فوضوية، وربما ستهُضَم معظم حقوق الناس، ولن توزع مهام الحياة بالعدل والاستحقاق.

يحكى أن رجلاً شرقيًا كان يدرس في الغرب ”إيرلندا“ وكان عنده امتحانًا للطب برسوم 309 جنيهات، ولم يكن لديه إلا مبلغ 310 جنيهات فدفعها، وانتهى الرجل من الامتحان، ومضت الأيام ورجع إلى بلاده.. وإذا برسالة تصله من أيرلندا جاء فيها: ”أنت أخطأت عند دفع رسوم الامتحان حيث إن الرسوم كانت 309 جنيهات، وأنت دفعت 310 جنيهات، وهذا شيك بقيمة واحد جنيه... فنحن لا نأخذ أكثر من حقنا!!!“ مع العلم أن قيمة الظرف والطابع أكثر من هذا الجنيه!!

ويقول كذلك وأنا أتردد ما بين الكلية والسكن كنت أمر على بقالة تبيع فيها امرأة واشتري منها كاكاو بسعر 18 بينسًا وأمضي، وفي مرة من المرات مررت بها... ورأيتها قد وضعت رفاً آخر لنفس نوع الكاكاو مكتوب عليه السعر 20 بينسًا، فاستغربت وسألتها هل هناك فرق بين الصنفين؟؟، قالت: ”لا“ نفس النوع ونفس الجودة، فقلت إذًا ما القصة؟!!! لماذا سعر الكاكاو بالرف الأول بـ 18 بينس، وفي الرف الآخر بسعر 20 بينسًا؟،

قالت: لقد حدثت مؤخراً في نيجيريا التي تصدر لنا الكاكاو مشاكل فارتفع سعر الكاكاو وهذا من الدفعة الجديدة نبيعها بـ 20 بينس والقديم بـ 18 بينسًا، فقلت لها إذًا لن يشتري منك أحد سوى بسعر 18 بينسًا حتى نفاذ الكمية، وبعدها سيأخذون بسعر 20 بينسًا؛ قالت: ”نعم“ أعلم ذلك؛ قلت لها إذا اخلطيهم ببعض وبيعيهم بنفس السعر الجديد بـ 20 بينسًا، ولن يستطيع أحد التمييز بينهم، فهمست في أذني وقالت: هل أنت غشاش أو حرامي؟؟؟؟، فاستغرب مما قالته ومشى؛ ومازال السؤال يتردد في أذنه... هل أنا غشاش أو حرامي؟!! أي أخلاق وضمير تحمل هذه المرأة؟!

لو عكسنا هذا التعامل الراقي والضمير الحي الذي يحمله الكثير من الناس في ذلك العالم، بالرغم من أنه لم يكن لديهم دين ولا تعاليم إسلامية ولا مسجداً في كل زاوية ولا قرآن يتلى ويسمع في كل مكان ولا خطب ومواعظ تقرأ في دور العبادة، مع هذا عمّ الصدق والعدل والمساواة واحترام القانون والإنسان في أرضهم، وفيها لا يعامل الإنسان على أساس جنسيته أو قبيلته أو مذهبه بل على أساس إنسانيته، فأين الخلل في مجتمعاتنا؟!.

عندما نقارن تلك المعاملات والأخلاق مع معاملاتنا وأخلاقنا في مجتمعاتنا التي تكثر فيها المساجد وفيها الناس يقرؤون القرآن الكريم، ويسمعونه ويرفع في مساجدها صوت الأذان، وتغلق الشوارع التي أمام المساجد لصلاة يوم الجمعة، فهل نرى الصدق والأمانة عند بعض تجار العقار في مشاريعهم وتعاملاتهم مع الناس؟ وهل نرى الصدق والأمانة في تنفيذ مشاريعنا الخدمية في شوارعنا ومدارسنا ومستشفياتنا؟، وهل نرى الصدق والأمانة من بعض التجار الذين يحتكرون البضائع وقت الأزمات؟، وهل نرى الصدق والأمانة عند بعض بائعي الأسماك والفواكه والخضار ومحلات بيع اللحوم والدواجن وغيرها؟ أم أن الغش والخلط في كل ما ذكر يحدث بين الحين والآخر؟

فمن هنا لا بد لنا أن نعرف بأنّ الدين ليس عند كلَّ من صلى وحج وصام، وأنّ الدين هو الصلاة، والحج، والصيام فقط، لكن الدين الأخلاق والمعاملة بالصدق والأمانة في كل أمور الحياة، والمسلمُ من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمنُ من أمِنه الناس على أموالهم وأعراضهم، أي أن الصفة الصارخة في المؤمن ليست صلاته، ولا حجه ولا صيامه! بالرغم من أهمية ذلك في الإسلام، لكن الصفة الصارخة تكمن في العبادات والمعاملات وهما نصف الدين الإسلامي وللأسف معظمنا فاشلين في النصفين!!.

وفي الختام: كثيرون سيكتشفون لكن بعد فوات الأوان، سيكتشفون بأن الدين ليس في العبادات من دون المعاملات، وأن الجنة التي وسعها السماوات والأرض لا أبواب لها إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: آية 7,8]“ والله خير العادلين.